العِلمانيون في الكنيسة شركة، تعاون، وحدة
غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو
عالمنا يتحول بسرعة الى “الرقمية“، فلا توجد مسافات أمام التواصل الاجتماعي social media والمعلومات. وتغيرت بالتالي القواعد الاجتماعية التي ورثناها من أهلنا، وتعودنا على احترامها. كذلك تغيرت النظرة الى الديانات وبعض مفاهيمها. فثمة تفكيرٌ جديدٌ خصوصا عند جيل الشباب، وثقافة جديدة، ومنطق جديد مختلف عن السابق، لذا يتعين على قادة المجتمع والكنيسة أخذها بنظر الاعتبار جديّاً، وتقييم خططها، وبلورة نظرة مستقبلية، وآلية جديدة بالنسبة للكنيسة لنقل الإيمان الى أجيال هذه الثقافة الجديدة، والتعامل معهم بمسؤولية، منعاً للسقوط في الفوضى والغوغائية!
العِلمانيون أعضاء في الجسد الواحد
في المسيحية، الكنيسة جسد واحد، عائلة واحدة. والمؤمنون هم أبناؤها وبناتها. والكنيسة بيت الكل، وشأن الكل بالعماذ والحياة الإيمانية. والكل مدعو الى التعاون والشراكة والتكامل والتناغم من اجل إشاعة رسالة المسيح في العالم، وتقوية حضور الكنيسة وخدمة الإنسانية. ثمة تحدٍ اليوم أمام الهوية المسيحية في الغرب وحتى لدى جالياتنا الشرقية في بلدان الانتشار، حيث تهيمن على المجتمع الغربي العقلية الفردية والاستهلاكية، على مقاس قاعدة عامة وليبرالية لحقوق الإنسان، مما اثر في القيم الدينية والأخلاقية، فشهدت لدى المؤمنين المسيحيين تراجعا فيها.
لنقرأ بتركيز ما جاء في الرسالة الأولى الى كورنتس، حيث يرسم بولس لوحة نموذجية عن الكنيسة وأعضائها والأدوار فيه، من دون الخلط أو الإلغاء.
“كما أَنَّ الجَسَدَ واحِدٌ، ولَه أَعضاءٌ كَثيرَة، وأَنَّ أَعضاءَ الجَسَدِ كُلَّها على كَثرَتِها لَيسَت إِلاَّ جَسَدًا واحِدًا، فكذلكَ المسيح…. فلا تَستَطيعُ العَينُ أَن تَقولَ لِليَد: لا حاجَةَ بي إِلَيكِ ولا الرَّأسُ لِلرِّجْلَينِ: لا حاجَةَ بي إِلَيكُما…فأَنتُم جَسَدُ المَسيح وكُلُّ واحِدٍ مِنكُم عُضوٌ مِنه. والَّذينَ أَقامَهمُ اللهُ في الكَنيسةِ همُ الرُّسُلُ أَوَّلا والأَنبِياءُ ثانِيًا والمُعلِّمون ثالِثًا، ثُمَّ هُناكَ المُعجِزات، ثُمَّ مَواهِبُ الشِّفاءِ، والإِسعافِ وحُسْنِ الإِدارةِ والتَّكَلُّمِ بِلُغات (12/ 12-27).
هذه هي صورة سر ّالكنيسة، الشركة والالتزام، والرجاء، وبُناها بوصفها جسد المسيح. من المؤكد لقد تعرضت الكنيسة لتطورات وتشويهات في فهمها لهويتها ودورها، على مرّ تاريخها الطويل، خصوصاً عندما سيطر الاكليروس (الاكليروسانية) على حوكمة الكنيسة، لكن ظهرت في منتصف القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين توجهات كنسية ولاهوتية جريئة، تطالب بالاصلاح والتجديد. وكان ثمرة هذه التوجهات انعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني 1962-1965، خصوصاً الدستور العقائدي عن الكنيسة، نور الامم، والقرار عن رسالة العلمانيين المؤمنين، والوثيقة عن الكنائس الشرقية. كذلك توالت تأكيدات البابوات المعاصرين، وخصوصا البابا الحالي فرنسيس على العودة الى الجذور، وضرورة إجراء تعديلات بنيوية في الكنيسة، مع الحفاظ على الوحدة والتنوع. وما دعوته البابوية الأخيرة الى عقد سينودس الأساقفة حول “المجمعية – synodality” في اكتوبر العام 2023 إلا تعبيرٌ عن اهتمامه بهذه المشاركة الغنية والدافئة في الكنيسة. وفي هذا الصدد، أعبر عن رجائي بان تؤدّي الكنائس الشرقية دوراً مهماً في هذا السينودس، انطلاقاً من خبرتها المجمعية، وتقاليدها وشهادتها للإنجيل، منذ فجر المسيحية، وطقوسها وروحانيتها والعلاقة الاسرية الحميمية التي تعرفها الاُسر المسيحية الشرقية.
واقعياً كيف تجسد هذه الصورة النموذجية
الكنيسة الكاثوليكية والارثوذكسية واقعياً تضم الأساقفة والكهنة والشمامسة والمؤمنين؛ إنه تنوع متكامل. كلٌّ من المفروض به ان يؤدي دوراً فاعلاً فيها، لكن ثمة حاجة لبلورة هوية العلمانيين المؤمنين في الكنيسة. حيث تقول الرسالة الأولى الى كورنتس: “فاعتبروا، أيُّها الاخوة، دعوتكم (1/26). ان العمل معا يمكن ان يُطور افقاً جديداً ونمطاً جديداً لحياة الكنيسة أكثر شمولية وترابطا ومحبة.
لا يمكن ان نتصور الكنيسة من دون الشعب المؤمن للعلمانيين رجالا ونساءً، الذين لهم نفس كرامة الابناء، وهم مدعوون لاكتشاف دعوتهم، والاهتداء إليها، تلك المعروفة كنسيا وعقائديا بــ “الكهنوت الملوكي” (1بطرس 2/ 9)، للمساهمة في البشارة وبنيان الكنيسة، جسد المسيح. دور العلمانيين المؤمنين المنتمين إلى الكنيسة قلباً وقالباً، لا يمكن الغاؤه أو تهميشه، شرط أن يعي هؤلاء العلمانيون رسالتهم في دورهم الحقيقي في الكنيسة بعيداً عن مزاجيّة الانتقادات والمزايدات والتسقيطات التي لا تنفع، بل تُعقّد العلاقة، إن لم نقل تجعلهم في اصطفاف غير مقصود مع غير المؤمنين، ناهيك عن الذين، من بينهم يتصرفون بأجندات ليبرالية إلحادية، تحت لباس الحديث عن الانتماء المسيحي وشؤونه.
ماذا يحتاج العلمانيون ليكون دورهم فعالاً ومؤثراً في الكنيسة؟
تنشئة المؤمنين تنشئة مسيحية سليمة ومستدامة ضرورية، وتثقيف انفسهم بمعرفة لاهوتية، وكنسية رصينة تدعم شراكتهم. كيف يقدرون ان يشتركوا في حياة الكنيسة وهم لا يميزون الفرق بين البطريرك والاُسقف، أو يتقصدون الخلط في ذلك، في اطار استهداف مبرمج! كيف لا يعرفون حقيقة الامور كما حصل أخيراً في موضوع التسمية الخاطئة للبطريركية الكلدانية! كيف يذهب أحدهم لحد مطالبة السينودس بالاعتذار عن تصحيح تسمية خاطئة؟ هذه الحالة تكشف الحاجة الى المزيد من التثقيف والتوعية. وأود أن أقول من هذا المقام، بان كل هذا يترك ضلاله على المنابر التي يستخدمونها، والتي تضعهم على صفحاتها، عندما يوصف أبناء الشعب المؤمن بالحشرات الضارة، وتستخدم تعابير مستهجنة مثل الصراصر، الزريبة، ورعاية العشب والبرسيم، وغيرها من التعابير، التي يبأ القلم من ذكرها. هذا إلى جانب ما يترك في الصفحات الداخلية من تعليقات بعيدة عن الرقي. فنسترعي انتباه قرائنا، وكتابنا، في هذه المنابر.
يجب الإقرار بوجود المركز الأول في الكنيسة، اي القيادة، إن كان بالنسبة للبابا في الكنيسة الجامعة، أو البطريرك في الكنيسة المحلية، او المطران في أبرشيته، فهم الأب والرأس كما هي الحالة في العائلة بالنسبة للاب والاُم، وعليه، ينبغي وجود الثقة المتبادلة، والالتزام بتعليم الكنيسة الكاثوليكية الرسولية الجامعة. هناك فرق بين أبناء الشعب المؤمن في حضن الكنيسة، وبين ناشطين قوميين اجتماعيين وسياسيين من المجتمع المدني.
المركز أو المرجعية لا يعني التسلط والانفراد، إنما الاحتضان والاحتواء. ولدى الكنائس الشرقية آلية للعمل الجماعي تسمى السينودس – المجمعية. والكنيسة الكلدانية دعت عدداً من المؤمنين من كلا الجنسين للمشاركة في سينودس العام 2019، لكن هذا العام لم تتمكن من دعوتهم بسبب جائحة كورونا …
هذا المقال نُشر على موقع بطريركيّة بابل للكلدان، لقراءة المزيد اضغط هنا.