بعد شهرين على كارثة انفجار المرفأ، من يرمّم الإنسان في بيروت؟
تحقيق ايليا نصراللّه
بعد 4 آب/ أغسطس عبارات "إنفجار، كارثة المرفأ، بيروت ما بتموت، ضحايا، دمار، مآتم، جرحى، تحقيق دولي شفاف، فساد، ...." تسيطر على المشهد اللبناني وخطاب اللبنانيين، والألم والحزن يسبُران عمقًا أكبر في قلوب اللّبنانيّين كل يوم، ومع كل شمس تتكشّف آثار جريمة الزلزال الّذي أصاب العاصمة ومشّح وجهها بالأسود والرماد.
الكلّ ما زال تحت وقع الصدمة. كبار وصغار يعانون من عوارض نفسيّة وحالات إكتئاب مرضي تضاف الى توعّك صحّي دائم... كيف يرمّم الانسان الذي فيهم، كيف يمكن أن يشفوا من أعراض الصدمة؟
دائرة الشؤون اللاهوتيّة والعلاقات المسكونيّة في مجلس كنائس الشرق الأوسط تولّت المهمّة وأعلنت برنامجها لإعادة ترميم إنسان بيروت تحت عنوان "الشفاء من الصدمات النفسيّة والمشورة الروحيّة".
أولى مشاهد الذعر
شبح الانفجار ترك خلفه روايات تُدمي القلب. ميرا نعيمة تروي قصّتها في يوم اعتبرته إيجابيًّا ومثمرًا قبل وقوع الفاجعة. فبعدما خرجت من محل للحلوى في منطقة الأشرفيّة، واقتربت من سيّارتها، سمعت دويّ انفجار تبعه بعد لحظات عَصْفُ انفجار ثانٍ حوّل المنطقة إلى ساحة رماد ودخان "تطايرت شظايا الزجاج في كل الاتجاهات، لم أكن أستوعب ما يحصل". في حال من الذعر، انطلقت ميرا بسيّارتها الى مستشفى القدّيس جاورجيوس (الروم) حيث فوجئت بالمشهد، "مصابون غارقون بالدم، موكب عروس مع فستان جميل ملطّخ بالدم..."، وتابعت طريقها وكأنّها "في فيلم رعب" كما أشارت، على وقع صوت الزجاج الّذي فرش الأرض، والّذي لم تنسه حتّى اليوم. دخلت في نفق مظلم وهي تكرّر "بدي فلّ، بدي فلّ..."، لم تكن تعي إن كانت تقصد الهروب من ميدان الانفجار الدامي أو من وطن لا يعَد أبناءه إلا بالخيبة والموت.
شعرت ميرا بضعف شديد، إلى أن وصلت بعناية إلهية الى بيتها. البعض مَن حولها اعتبروا أنّ الظّروف الّتي مرّت بها لم تكن قاسية بقدر من أصيبوا أو خسروا منازلهم. مع ذلك لم تتوقّف ميرا عن البكاء. لم تستسلم يومًأ للنوم من دون أن تستعيد كلّ تلك المشاهد الحزينة، حتى أنّها أصيبت بعوارض تشنّج مؤلمة في يدها ورجلها وفمها.
شاركت نعيمي في جلسات علاج نفسي جماعي عدّة، لكنّها، حتّى الآن، لم تتمكّن من تجاوز اللحظات العصيبة وما زالت مسمّرة في ذاك المكان وتلك اللحظة الكارثة.
المرافقة النفسيّة والمعالجة من الصّدمات
في حديث مع المتخصّصة في علم النفس العيادي والمعالجة النفسيّة زينة زيربيه، أشارت أنّ انفجار بيروت حدث مفاجئ لم يكن أحدًا مهيًّا له نفسيًّا، لمواجهة تداعياته وانعكاساته على الصعيد النفسي الفردي. وأضافت أنّ الحدث الصّادم الجماعي له آثار سلبيّة عدّة، كالخوف والغضب، القلق، فقدان الشّعور بالأمان، عدم الثقة والاضطراب... أمّا بالنّسبة لنتائجه فيؤدّي إلى انشقاق في التوازن النفسي – الإجتماعي - البيئي، وذلك على أصعدة عدّة. على مستوى الجسد في حال التعرّض لسلامة الجسم، الإصابة بالاعاقة...، على صعيد الصحّة النفسيّة عندما يتعرّض الفرد لمشاهد صادمة كرؤية الجثث، الدماء، الأشلاء، المفجوعين... وعلى مستوى المحيط عندما تضطرب العلاقة بالمكان الّذي تعرّض للعنف، وعندما يواجه المواطنون حال التشرّد...
أمّا بالنّسبة لمنهجيّة التدخّلات ما بعد الصّدمة فبيّنت زيربيه أنّه ثمّة مستويات لمواجهة التداعيات. على الصّعيد الجماعي –النفسي – الإجتماعي - البيئي يجب الإعتراف بالعمل الإجرامي والعنيف وإدانته، العمل على تحقيق العدالة ومحاكمة المسؤولين عن الفاجعة، إنصاف الضحايا والتعويض المادي والمعنوي لهم ولعائلاتهم.... وعلى مستوى التدخّل المهني والتعامل مع الناجين الأفضل هو فسح المجال للتعبير عن المعاناة وآثار الصّدمة والقلق المرتبطين بالحدث، لتجنّب الوحدة والانغلاق بالمعاناة. ومن الممكن أيضًا خلق مساحات دعم فرديّة وجماعيّة، طبيّة، نفسيّة وروحيّة.
على مقلب آخر، تعمل منظّمات عدّة على مساعدة الأفراد الّذين تعرّضوا لصدمة جرّاء الإنفجار وعلى مرافقتهم ومتابعة حالاتهم النفسيّة. إذْ، نفّذ مجلس كنائس الشرق الأوسط برنامج "الشّفاء من الصّدمات والمشورة الرّوحيّة"، من تنظيم دائرة الشؤون اللّاهوتيّة والعلاقات المسكونيّة، بمرافقة إختصاصيّين من مختلف المجالات. شارك فيه مجموعة من الشّباب الّذين عاشوا مأساة الفاجعة، منهم من تطوّعوا في عمليّة الإغاثة عبر جمعيّات وحركات كنسيّة وكشفيّة ومدنيّة وكانوا على تواصل مباشر مع المتضرّرين والمصابين، ومنهم من تعرّضوا لصدمة جرّاء الكارثة ومرّوا بوقت عصيب. وتجدر الإشارة إلى أن مجلس كنائس الشرق الأوسط يواصل عمله من أجل إغاثة بيروت عبر ندائين كان قد أطلقهما على إثر الإنفجار.
بعد مرور شهرين على الانفجار، تبقى مشاهد بيروت الجريحة محفورة في ذاكرة اللّبنانيّين. بيروت تحضن اليوم شعبًا فقد الأمل ويقف أمام مستقبل مجهول. فإلى متى تستمرّ الصّدمة وآثارها؟ الشّعب اللّبناني بحاجة اليوم إلى دعم نفسيّ ومعنويّ وحتّى ماديّ كي يستعيد حياته الطبيعيّة ويستعيد رجاءه وفرحه فهل من يستجيب من المسؤولين؟!!
دائرة التواصل والعلاقات العامة