“لبنان بعد تفجير بيروت”

كلمة الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس في ندوة للبرلمان الأوروبي

Dr.Michel Abs, MECC Secretary General

نظّمت وحدة الحوار بين الثقافات والأديان في البرلمان الأوروبي Intercultural and Religious Dialogue Unit ندوة افتراضيّة خُصّصت للبحث في تداعيات انفجار مرفأ بيروت، واستضافت الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس متكلّمًا.

نصّ الكلمة كاملًا في ما يلي:

لبنان بعد تفجير بيروت

د. ميشال إيلياس عبس

الأمين العام

مجلس كنائس الشرق الأوسط

 

لا يمكننا اعتبار انفجار بيروت حادثة منعزلة بحد ذاتها ولا هو حادثة مستقلة عن المسار الذي يعيشه لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990 و الذي تُوج بثورة اندلعت في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019.  في مساء ذات خميس، امتلأت شوارع لبنان بمئات الآلاف من اللبنانيين، وكانت هناك صرخة واحدة بالإجماع: لقد اكتفينا!

image001.png

كانت هذه الانتفاضة، التي أُطلقت عليها أولاً تسمية "انتفاضة الواتساب"، في الظاهر رد فعل على اقتراح من جانب الحكومة لفرض ضريبة على استخدام تطبيق واتساب من قبل اللبنانيين؛ لكن كانت هذه فقط القطرة التي أفاضت الوعاء.

بدأت القضية قبل ذلك بكثير. قبل ثلاثة عقود، عندما اجتمع ممثلو الأمّة المفترضون في شبه الجزيرة العربية، ووقّعوا على ميثاق الوحدة الوطنية - المسمى "إتفاق الطائف" - من أجل إنهاء خمسة عشر عامًا من الاقتتال الداخلي. كان هذا الاتفاق، الذي ترك الدولة بدون رأس - ولكن بالأحرى بثلاثة رؤساء، نقطة الانطلاق لثلاثة عقود من التدهور المنهجيّ - حتى التدمير - لبنى الإدارة العامّة التي من المفترض أن تحافظ على مصالح اللبنانيين الذين نجوا من الحرب. الناتج النهائي اليوم هو قطاع عام مفكّك وحياة سياسيّة فاسدة لا تترك مجالاً لأيّ أمل في الإصلاح. إن حصيلة الإهمال التي تميّزت بها إدارة الشؤون العامّة هي التفسير الوحيد للوضع الذي أدّى إلى انفجار بيروت، بغضّ النظر عما إذا كان هذا الانفجار مجرّد حادثة وسوء طالع أم ناتج عن تفجير متعمّد.

لقد استخدم قادة الميليشيات الذين اكتشفوا الأداة السحريّة المسمّاة الطائفيّة السياسيّة، ومارسوا بأفضل الطرق الممكنة وأكثرها فاعليّة طيلة ثلاثة عقود، 1990-2020. خلال هذه الفترة تم اكتشاف آلاف حالات الفساد ومئات الفضائح ولم يتمّ التعامل مع أيٍّ منها بالشكل المناسب. لقد رسمت الجماعات السياسيّة - الطائفيّة المختلفة خطًا أحمر أمام قادتها المفترضين. إذا صادف انّ تم فتح "ملف" لسياسيّ فاسد ما، فإن المجموعة السياسيّة - الطائفيّة التي ينتمي اليها ستنتصب بأكملها وتحميه. طيلة هذه الفترة كانت هذه هي الوصفة الوقائيّة التي استخدمها جميع السياسيين حتى لو كانوا في عداوة تامّة مع بعضهم بعضًا. الصيغة تنطبق على الجميع وأضحت منحىً متوافقًا عليه في الساحة السياسيّة. أنت تمارس التسامح مع قائدي، وأنا أمارس نفس الشيء مع قائدك. كان التعصّب أقوى من المصالح ممّا ادّى الى ان شُلّت عملية التفكير العقلاني التي تؤدي إلى المساءلة بأكملها. لذلك، لم يُحاسب أيُّ شخص من شخصيّات الحقل العام عمّا ارتكبه. لقد سادت حال التواطؤ و تمّ تكريس هذا المنهج تحت مسمّى الديمقراطيّة التوافقيّة.

لذلك ، خلال كل الفترة التي تفصلنا عن نهاية الحرب الأهليّة في عام 1990، تمّت محاسبة عدد قليل جدًا من الأشخاص على ما فعلوه وسُجن عدد أقلّ. عندما كان الأمر كذلك، كان السبب الرئيس هو رفع التغطيّة من جانب الزعيم السياسيّ الطائفيّ ولأسباب شخصيّة بشكل أساس.

في هذا الصدد، نحن لا نغّش أنفسنا بتسمية هؤلاء بالقادة بالسياسيين أو بالبرلمانيين، بل بالأحرى بالأمراء. لا تأتي قوّتهم من الأشخاص الذين ليس لديهم خيار سوى انتخابهم، بل من قوة إلهيّة اختارتهم "لحماية" الطائفة المفترضة - أي الجماعة السياسيّة - الطائفيّة - تجاه الجماعات السياسيّة - الطائفيّة الأخرى. بالنسبة الى الجماهير، كانت هذه المهمة هي جُلّ المطلوب وسهّلت لهؤلاء الأمراء إساءة إدارة موارد البلاد.

من خلال التعلّم بالممارسة، تمّ تطوير الصيغة بشكل أفضل: إمّا أن تحكم هذه الطبقة الحاكمة البلاد وتنهب مواردها، أو تدفعها إلى الحرب الأهليّة. معادلة الابتزاز الجديدة هذه تظهر في كل مرّة تطالب فيها النُخَب الصادقة في البلاد فتح "الملفات" ومحاسبة الأمراء على ما فعلوه.

كانت ثورة اللبنانييّن التي انطلقت في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بمثابة جرس إنذار مبكّر حقيقي ومخيف لطبقة الأمراء. لقد أشارت إلى أنّ الناس قد اكتفوا من الاستغلال وأنّ مستوى الوعي أصبح عاليًا لدرجة كافية تسمح بتدمير الأصنام والضغط من أجل المساءلة والعقاب. كان المطلب المركزي هو استرداد ثروة اللبنانييّن المنهوبة لمدة ثلاثين عامًا وقد شكّل هذا الحدث نقطة تحوّل في تاريخ لبنان المعاصر. كانت الأحداث غير تقليديّة وأعلنت عن تحوّلٍ نموذجيّ في البنى الذهنيّة والمشهد السياسي.

من أجل الرد على هذه الانتفاضة، تم استخدام كل أنواع الكمائن والعقوبات لردع اللبنانيّين عن مواصلة العمليّة و قد نجحت مناورات الطبقة الحاكمة هذه بدرجات متفاوتة ولكن دون نتائج حاسمة.

خلال تلك الفترة، أدى ظهور وباء الكورونا، الذي ترافق مع انخفاض كبير في قيمة العُملة اللبنانيّة، إلى تغيير المشهد. انحرف تركيز الجماهير الساخطة نحو الهمّ الصحي، وبدأت الانتفاضة تضعف، في الظاهر على الأقلّ.

 

أما انفجار بيروت فقد حدث في الوقت الذي كان فيه اللبنانيّون يصارعون من أجل تحصيل رزقهم. التدهوّر الكبير في قيمة العملة الوطنيّة ادّى الى تراجع  كبير في مستوى معيشة الغالبيّة العظمى من السكان، لأنه قد جرى توجيه الاقتصاد اللبنانيّ، على مدار الثلاثين عامًا الماضية، الى الريع والمضاربة، فأضحى اقتصاد يعتمد على الاستيراد لأكثر من 80٪ من حاجاته، حتى لمعظم حاجاته الأوليّة. ترافق ذلك مع إغلاق الشركات بالمئات، وتسريح الموظفين بالآلاف وتخفيض الرواتب بنسب عاليّة.

في خضّم هذا الاضطراب الشديد، ضاع اللبنانيّون بين حكومة وطبقة حاكمة شديدتيّ الفساد، ووضع اقتصاديّ متدهوّر، و التهديد بإندلاع فتنة طائفيّة. الضفدع، الذي كان سعيدًا أولًا في الماء الدافئ، لم يعد بإمكانه الخروج منه عندما أصبح الماء يغلي.

على غرار جائحة كورونا، جاء انفجار بيروت عبئًا إضافيًا على عاتق مجتمع مُستضعَف للغاية، ممّا منع الناس من تحميل قادته - الأمراء المسؤوليّة عمّا ارتكبوه على مدى عقود. انشغل اللبنانيّون جدًا بتأمين المسكن والدواء والطعام والأقساط المدرسيّة بحيث لم يعودوا قادرين على الاهتمام بأيّ أمر آخر.

مساعدات الإغاثة وإعادة الإعمار التي تمّ تقديمها للمتضرّرين من الانفجار عبر بعض المنظّمات الحكوميّة مثل الجيش اللبناني وبعض الوزارات، وكذلك عبر الهيئات الدوليّة والمنظّمات غير الحكوميّة، لا تزال أقلّ بكثير ممّا يحتاجون. وتظهر الأرقام التي نتجت عن المسوحات المختلفة التي أجريت في المناطق المتضرّرة حاجة كبيرة للتمويل وفترة طويلة لإعادة الإعمار حيث أنّ جميع المواد غير متوفّرة بسبب مشاكل أسعار الصرف والتضييق على التحويلات الماليّة الى الخارج.

إلى جانب الأبعاد الماديّة لانفجار بيروت، يبقى الإهتمام الاساس في الجوانب النفسيّة -الاجتماعيّة والثقافيّة - القيميّة.

بالمختصر المفيد، يمكننا القول أنّ انفجار بيروت كان قضاءً على أي أمل تبقّى في الإصلاح السياسيّ وإرساء دولة القانون وحتّى في مستقبل لبنان. التحقيقات، التي كان من المفترض أنّ تستمرّ لبضعة أيام كما وعدت الدولة، ما زالت مستمرّة دون نتائج معلنة ثلاثة أشهر بعد الكارثة. اللبنانيّون لا يأملون ولا يتوّقعون أيّ شيء إيجابي من الأيّام المقبلة ولديهم اليقين أن الأمر برّمته سوف تجري لفلفته مثل آلاف الحالات المماثلة التي حصلت منذ استقلال لبنان في الأربعينيات.

الأمل والصمود والتصميم هي صفات أساسيّة في إعادة بناء الاوطان، ولكن السؤال الحاسم يبقى: هل لا يزال اللبنانيّون يتمّتعون بهذه الصفات؟

 

ان السباق بين اليأس والأمل محتدم، لكن من المعروف أن اللبنانيّين شعب صلب، مثل الصخور التي كسروها عبر التاريخ لبناء بلدهم.

أثناء إعداد مسوّدة هذه المداخلة، نشرت هوغيت عبس أبو مراد، أستاذة الدراسات الثقافيّة، صرخة في صحيفة  لوريان - لوجور المحليّة الناطقة بالفرنسيّة. مقالًا يلخّص مأساة اللبنانيّين. سأقتبس منه بعض الجمل وساحاول الحفاظ على المعنى ما استطعت.

تتحدث عن طبقة الأمراء الحاكمة في لبنان، وتقسيم الغنائم بينهم دونما أي اعتبار لمعاناة اللبنانيين. تقول:

"وبينما يتقاتل الجشعون على السلطة من أجل الحصول على امتيازات، فإنّ السكان ينفقون ما تبقّى لديهم من أوراق نقديّة فاقدة القيمة لكي لا يموتوا مرّتين. "

ثم شدّدت على معاناة السكان الجرحى قائلة:

" كيف نداوي جراح هؤلاء المنسيّين، هؤلاء المتروكين، هؤلاء الأحياء الأموات، الذين تخطّت خسائرهم المعنويّة والماديّة أيُّ قدرة على التخيُّل؟"

بالنسبة الى الكاتبة، كما هو الحال بالنسبة الى معظم اللبنانيّين، فإن الرابع من آب/ أغسطس 2020 هو يوم في تاريخنا لا يمكن نسيانه، لكنّه بداية خيبة أملٍ جديدة:

"في التاريخ الحديث للبنان، سيكون هناك زمنان: زمن قبل الرابع من آب/ أغسطس وزمن بعده. وجاء أداء ما بعد الرابع من آب مخيبًا للآمال أكثر مما قبله."

ثم تختتم بالقول إن الأماكن المدمّرة في لبنان أصبحت :  "بيتي، البيت البشع".

((Homes unsweet home

في هذا المشهد القاتم، لا يسعني إلا أن أؤكّد على دور بعض الأجزاء الباقيّة من القطاع العام في لبنان والتي لا يزال بإمكاننا الاعتماد والمراهنة عليها. يجب أن تكون جزر الأمل هذه في مؤسّسات القطاع العام حجر الزاوية لإحياء الادارة الحكوميّة برمّتها.

علاوة على ذلك، ينبغي لنا أيضًا أن نؤكّد ونشدّد على دور المنظّمات غير الحكوميّة وكذلك المنظّمات الحكوميّة - المشتركة الدوليّة في مساندة الناس أثناء الكوارث. لقد كان لهم دور فاعل في توفير احتياجات الناس عندما لم يستطع أحد آخر ذلك.

عند مشاهدة حال الأمّة التي تعاني من متلازمة العجز المكتسب، حيث لا تتمّ تلبية حتى الاحتياجات الأساسيّة للبشر، نسأل انفسنا: ماذا عن الكرامة الإنسانيّة؟

إنّ لبنان النازف بحاجة إلى كل أنواع الدعم من جانب المجتمع الدوليّ، من الإغاثة الفوريّة، إلى استعادة ثقافة الكرامة الإنسانيّة، بما في ذلك التأهيل المهنيّ والرعاية الصحيّة والتعليم والسكن. نحن في مجلس كنائس الشرق الأوسط، نتعاطى مع بعض من هذه الاحتياجات و نخطّط للتعاطي مع بعضها الآخر في خطّة العمل التي يجري تحضيرها للمرحلة القادمة. رفع مستوى الوعي هو بند أساس على جدول أعمالنا.

أثناء تقديم الدعم، سواء كان ذلك في شكل دراية أو مساعدة ماديّة، فإن المجتمع الدوليّ مدعو إلى التدقيق في المنظّمات التي يتمّ ارسال الدعم من خلالها وذلك لكي لا تصير هذه المساعدات عرضة للهدر ولكي تستعمل هذه المساعدات بالفاعليّة القصوى.

لقد حدث هدر فادح باسم الناس الذين لم يستفيدوا إلّا بدرجة متدنيّة ممّا رُصد لمساعدتهم وهذا الامر يجب أن ينتهي. لبنان الجريح على صورة المسيح سينتصر على الجحيم وسيكون مجرى التاريخ في مصلحته في القادم من الزمان.

نأمل فقط ألا يتطلّب هذا الامر تضحيات توازي ما قدّمه لبنان حتى اليوم.

بيروت، 20 تشرين الثاني 2020

**********************

شاهد فيديو الندوة الإفتراضيّة كاملًا:

Previous
Previous

مجلس كنائس الشرق الأوسط يطالب بالعدالة لأرتساخ

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط في ندوة للبرلمان الأوروبي حول انفجار بيروت