المؤسّسات الاهليّة بين الإنسانيّ والسياسيّ
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
المؤسّسات أو الهيئات الاهليّة أو غير الحكوميّة، أو ما يسمّى مؤسّسات المجتمع المدنيّ NGOs، وفي مراحل معينة سميّت الهيئات الخاصّة التطوعيّة أوPVOs ، هي منظمات لا تتوخّى الربح، تنشأ بموجب قانون خاص بها يحدّد عملها وأنظمتها، وتعتبر هذه المؤسسات سندًا يُعتّد به للعمل في الحقل العام، من الحقوقيّ الى البيئيّ مرورًا بالإنسانيّ. أي كلّ ما ليس له علاقة بالعمل السياسيّ أو الاقتصادي، وهما القطاعان المسيّطران على قرارات المجتمعات في العصر الحديث.
لقد أثبتت الهيئات الأهليّة قدرة عالية على الإبتكار والإبداع واجتراح مفاهيم جديدة في الحياة الإجتماعيّة وخدمة فئات المجتمع المهمّشة والمستضعفة والنضال من أجل القضايا الإنسانيّة والإجتماعيّة على أشكالها. لذلك نما هذا القطاع، قطاع الهيئات الاهليّة والمجتمع المدني، نموًّا مضطرِّدًا في نصف القرن الماضي وأصبح يشتمل على مؤسّسات وتآلف مؤسّسات، أو ما يسمّى كونسورتيوم، وأصبح ذو ثقل في السياسات الاجتماعيّة للدول وشريكًا في الحماية والتنميّة الاجتماعيتين.
لقد عمدت جميع فئات المجتمع الى إنشاء هيئات أهليّة تحمل توجّهاتها وتطلّعاتها ونظرتها الى الحياة والإنسان والمجتمع. الأديان لها هيئاتها، والأحزاب لها هيئاتها، والناشطون الاجتماعيّون لهم هيئاتهم ومختلف الهوّيات الثقافيّة لها هيئاتها وحتى الشركات التي تتوخّى الربح لها هيئاتها أيضًا من ضمن سياق مسؤوليّتها الاجتماعيّة.
ليس من عمل دون هدف، والأهداف تختلف من هيئة الى أخرى، وجميعُها لها خلفيّات دينيّة أو سياسيّة او اقتصاديّة، فكيف يمكن أن تخدم هذه المؤسّسات المجتمع؟
العِبرة في معايير العمل والشفافيّة.
أن تقوم هذه المؤسّسات بالخدمة انطلاقًا من خلفيّتها، الدينيّة أو السياسيّة أو الفكريّة أو الإقتصاديّة، فهذا حقّها، لكنّ المهمّ أن تكون في خدمة الإنسان المحروم والمعذّب والثقيل الأحمال والذي يعيش ضيمًا حياتيًّا أو اجتماعيًّا أو صحيًّا، أو غير ذلك من عذابات الإنسانيّة.
هذه الهيئات، على الرغم من بعض الاستثناءات، دأبها أن تقف إلى جانب كلّ هؤلاء الناس من دون تمييز أو مُفاضلة أو مُحاباة. هذه الهيئات لا تسأل المستضعَف من أنت أو ما هو انتماؤك الدينيّ أو العرقيّ او السياسيّ أو الفكريّ، بل أن يكون معيارها مقدار الضيم أو الإجحاف الذي يعانيه هذا الإنسان.
كلّ تصرّف في هذا العالم له آثار جانبيّة وتَبِعات، والعمل الأهليّ أو الإنسانيّ أو المدنيّ لا يشذّ عن هذه القاعدة.
أن تستفيد فئات معيّنة من خدمة أُسديَت لمعذّب أو مضطّهد أو محتاج فهذا أمر ممكن، ولكن الهيئات الأهليّة غير معنيّة بذلك إذ إنّ تركيزها هو دومًا على أداء الخدمة والتعامل مع الحاجة. ليس لا من فلسفة ولا من قيَم العمل الإنسانيّ أن تَحرُمَ مُعدَمًا من مساعدة لأنّ هناك احتمال أن يستفيد فريق ثالث من هذا الدعم. هذه جريمة ضدّ الإنسانيّة. عندما يبدأ العمل الإنسانيّ بالتمييز والدخول في هذه الحسابات والاعتبارات يكون قد فقد معناه ومبرّر وجوده.
إنّ هدف العمل الإنسانيّ هو مؤازرة الناس في أوقاتها الصعبة وفي أزماتها وفاقتِها، وخدمة الناس هي مآل كلُّ ما يقوم به، وتركيزه هو على هؤلاء حصرًا وكلُّ ما عدا ذلك هو هرطقة إنسانيّة لا تقلّ سوءًا عن الهرطقة على الباري لأنّ خدمة خليقته هي بمثابة صلاة.