أنتم ملح الأرض: الأمانة والشهادة والدور
هذه الكلمة متوفّرة أيضًا باللّغة الإنكليزيّة.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
"أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ، وَلكِنْ إِنْ فَسَدَ الْمِلْحُ فَبِمَاذَا يُمَلَّحُ؟ لاَ يَصْلُحُ بَعْدُ لِشَيْءٍ، إِلاَّ لأَنْ يُطْرَحَ خَارِجًا وَيُدَاسَ مِنَ النَّاسِ." (مت 5: 13).
قالها السيد المتجسد لتلاميذه حين كان يكرز في الجموع التي وافته الى الجبل.
يهمنا ان نتوقف اليوم امام هذا القول الذي نقتطفه من الموعظة الدهرية التي اختصر بها السيد الوجود القيمي السلوكي الاجتماعي للجنس البشري.
أنتم ملح الأرض!
كم لهذا القول من رمزية وكم يُحَمّل رفقاء السيد من مسؤولية تاريخية اجتماعية إنسانية.
أنتم خميرة الصلاح يقول لهم، ولن يصلح امر الكون الا بكم تمارسون تعاليمي في حياتكم اليومية وفي علاقاتكم مع الآخرين بناء على ما حمّلتكم من قيم وطرائق حياة.
الكون المأزوم اليوم هو احوج ما يكون الى استلهام هذه التعاليم، بدءاً من الموعظة على الجبل وصولاً الى الشهادة على الصليب المحملة بالغفران.
أنتم ملح الأرض!
والملح هو المانع من الفساد، الحافظ للجودة، المحصن من التسوس، الرادع من الاهتراء، المُجَوِد للحياة.
كم هو وازن هذا "العبء"، يضعه السيد على مناكب تلاميذه وهو يعرف ان مناكبهم مناكب جبابرة، كما سواعدهم، التي حركت مجاذيف مراكب التبشير قاصدة المعمورة، هي سواعد رسل لا تعرف التعب.
كم هي غالية هذه الأمانة، يضعها السيد المتجسد بين يدي تلاميذه وهو يعلم علم اليقين ان السراج المُنار لن يكون تحت الطاولة بل سوف يضيء العالم ويكون نوره.
أنتم ملح الأرض؟
هي وصية بثلاثة كلمات تختصر مجلدات. هي سبيل حياة ونهج تعَلم وتعليم ومسارٌ لإنسانية ما زالت ضائعة في التفاهات والانانيات.
ولكن إذا فسد الملح!
إذا فسدت خميرة الصلاح ومنظومة القيم فماذا يصلحها؟ الملح ماذا يملحه إذا فسد وبماذا يملح؟
لقد توقع السيد، المتمرد على تجار الهياكل وعلى الفناء، وصول الإنسانية الى مآزق في تاريخها، نعيش أحدها اليوم.
كم مرة ذكّر السيد بالخراب الاجتماعي الذي سوف تدركه البشرية؟
كانت "خشيته" ان يفسد الملح فلا يعود قادراً على ملئ دوره بتجويد الحياة على الأرض، فلا تكون للإنسانية حياة أفضل.
لقد حذّر السيد من فساد الملح فيضحي الجنس البشري يتيماً، لا مرجعية له ولا تطلعات ولا عدالة ولا سلام، اذاً، لا كرامة.
اما ذروة المأساة فتكمن في ان يطرح الملح خارجاً ويداس من الناس! انها حقا لمأساة ان يتحول مُطَيِب الحياة مادة مرذوله لا مكان ولا مكانة لها في حياة الانسان. انه الحضيض.
المسيحية، ايمان ملح الأرض ودستور حياتهم، لم ولن تصل الى هذا الدرك من الانحطاط. انها تكتنز ما يكفي من قوة الايمان وقوى التجدد وصلابة المكونات لكي تبقى منارة للبشرية، ملحاً للأرض وهي التي كانت الأساس الإيماني والقيمي للحضارة الإنسانية.
بعد الفين من الموعظة على الجبل، وبعد قرون من الاضطهاد والمجازر ومحاولات الإبادة، لا يزال ملح الأرض هو هو، يُطَيّب الحياة ويجَوِدها ويعطيها معنىً أفضل.
لقد حمل ملايين المؤمنين الأمانة وساروا بها في مسالك وعرة وضيقة وخطرة، تماما كما توقع السيد، فأوصلوها الى أجيال واجيال وما زالوا عبرها يشهدون للحق والخير والجمال.
لقد عرف ملح الأرض كيف يتعاملوا مع المخاطر والمحاذير والمؤامرات عبر الحكمة التي اوصاهم بها السيد، كما عرفوا كيف يتعاملوا مع الحقد والضغينة والكراهية عبر المحبة التي جسدها السيد.
اهم ما هو متوجب على ملح الأرض، هو ان يبقى ملحاً للأرض، يقوم بالدور الذي تطلبه منه الإنسانية، الدور الذي تحتاجه فيه الإنسانية، فيُطَيِب لها حاضرها وينير لها سبيل الزمن الآتي.
ملح الأرض أمانة وشهادة ودور!
انها البيعة التي لن تقوى أبواب الجحيم عليها!