إيمان نسّاك الكهوف
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
يقف المعنيّون بتاريخ هذه الأمّة مشدوهين أمام الظروف التي عاشها نسّاك صمدوا في وجه العواصف من كل نوع، محافظين على إيمانهم ومستودعين كنوزه لأجيال لم تكن قد ولدت بعد.
صلابة العقيدة، مضَاءُ الإيمان ونكران الذات كلّها طبعت مؤمني ونسّاك مشرقنا الجريح.
لقد سطّر نسّاك ومؤمنو المسيحيّة ملاحم بطولة وتفانٍ عزّ نظيرها في التاريخ.
همّ حفروا الصخور، ذاقوا شظف العيش، تعرّضوا لشتى أنواع المخاطر، تحمّلوا العذاب، وعندما استحقت الشهادة تقدّموا دون وجَل فريسة للضواري في حلبات الأباطرة، ولم يتنازلوا عن إيمانهم.
لقد شكّلوا العين التي تقاوم المخرز وجسّدوا عِظة السيّد على الجبل ومسيرته على طريق الجلجلة.
ما تركوه لنا من روحانيّة وقيم وقواعد سلوك ساهم بشكل أساسيّ في بناء الحضارة الإنسانيّة.
البشرّية اليوم هي أبعد ما تكون عن ثقافة التنسّك والزهد وقد فعل بها مجتمع الاستهلاك ما فعل، فحوّل الناس، في معظمهم، إلى أنانييّن، يركضون لاهثين على مدار يومهم بحثًا عمّا يسدّ لهم جشعهم إلى الإستهلاك والتمتّع بملّذات الحياة.
لقد تراجع مفهوم الزهد والتنسّك إلى درجة أصبحت تهدّد مصير الإنسانيّة جمعاء، رغم وجود الكثير من الحركات التغييريّة التي تحارب هذه النزعة.
في قصيدته "الكفيفين" يذهب شارل بودلير إلى القول:
"بينما حولنا تغني وتضحك وتصرخ،
مأخوذًا باللّذة إلى حدّ الفظائع"
وهذا ما ينطبق على حياتنا في مجتمعات الحداثة.
ماذا سيترك هذا المجتمع لأجيال لم تولد بعد؟
لا أحد يستطيع الإجابة.
نستطيع أن نقول فقط: يا خجَلنا من نسّاك الكهوف! ماذا فعلنا بالوزنات التي أورثونا إيّاها؟