الإجتماع التأسيسي لمجلس كنائس الشرق الأوسط (2)
بداية عهد مسكونيّ في كنيسة الشرق
"نتكاتف ونتواصل" منذ العام 1974
إعداد ايليا نصراللّه
منذ العام 1974 ومجلس كنائس الشرق الأوسط يعمل على نشر رسالته المسكونيّة في المشرق، مهد المسيحية والأرض التي ولد عليها وترعرع وقام من بين الأموات، كما وتحقيق هدفه الأساس الّذي يكمن في تعميق الشّركة الروحيّة والخدمويّة بين الكنائس الأعضاء وتوحيد كلمتها وجهودها، وذلك بالسّعي نحو العمل من أجل الوحدة المسيحيّة والشّهادة للإنجيل، إضافةً إلى الخدمة الإنسانيّة، في المنطقة وبين شعوبها، ليكون شعاره الرّئيس في بناء الجسور "نتكاتف ونتواصل".
إذًا، يُعتبر عام 1974 محطّةً مفصليّةً في تاريخ الكنيسة المشرقيّة وفي مسار الرّوح المسكونيّة، حيث أبصر مجلس كنائس الشرق الأوسط النّور في اجتماعه التأسيسيّ الأوّل في نيقوسيا، قبرص بين 28 و30 أيار/مايو من هذا العام، ليكون منبرًا مسيحيًّا يجمع كنائس الشرق، في إطار الحوار والمحبّة والأخوّة والتعاون.... خلال الإجتماع هذا أُلقيت كلمات عدّة عرضت خطوات تأسيس المجلس كاشفةً عن بنيته وهيكليّته، كما رسالته وأهدافه المنوي تحقيقها في الشرق الأوسط.
استُهلّ الإجتماع بكلمة الشمّاس ديونيسيوس كيكوتيس ممثّلًا كنيسة قبرص حيث رحّب بالحضور مشدّدًا على وقوف الكنيسة في قبرص إلى جانب المشاركين الّذين يعملون من أجل إعادة تنظيم مجلس الكنائس للشرق الأدنى، فهذه الجهود "ضرورة محتمة لا سيّما في مثل هذا الوقت الّذي يكثر فيه البؤس والشّقاء. إنّها لضرورة أن يعمل كلّ فرد ما استطاع من أجل الإنسان"؛ مضيفًا "علينا أن نساعد النّاس كي يعيشوا ويموتوا من أجل أهداف أعلى من تلك الّتي تختصّ بذاتهم... وهل هناك شيء أفضل نقدّمه للإنسان، من كلمة الله، نحن إذا فعلنا ذلك، نخفّف من شقاء الإنسان. ولذلك لا بدّ من القيام بهذه المحاولة". من هنا استشهد كيكوتيوس بآية من رسالة يوحنّا الأولى 16:4 "الله محبّة ومن يثبت في المحبّة يثبت في الله والله فيه" معتبرًا أنّ كلّ مشارك قد "ثبت وجهه لينطلق إلى نيقوسيا بدل أورشليم (لوقا 51:9) ليشارك في الإجتماع بهدف تطوير فعاليّة مهام مجلس الكنائس للشرق الأدنى. وأنهى كلمته ناقلًا إلى الحضور بركات صاحب الغبطة رئيس الأساقفة مكاريوس.
بداية عهد جديد ومجلس جديد
في إطار "الإنتقال من القديم إلى الجديد" وجّه بعدها القسّ هوفانس أهارونيان مقدّمة عامّة معبّرًا فيها عن الرّغبة القديمة للتوصّل إلى مثل هذا اليوم تجتمع فيه كلّ الكنائس "كنّا نتوق ونصلّي مدّة تزيد على عشر سنين حتّى استطعنا أن نتوصّل إلى تحقيق وحدتنا في منظّمة جديدة تحمل الإسم القديم مجلس الكنائس في الشرق الأدنى".
تابع أهارونيان مقدّمًا لمحة موجزة عن فكرة تأسيس حركة مجلس الكنائس العالمي الّتي انطلقت في المؤتمر التبشيري الّذي عُقد في ادنبره عام 1910، ليبصر المجلس النّور عام 1948، وبالتّالي عن انتقال الشّعور بالإتّحاد في المسيح إلى الشرق الأوسط وتطوير الحركة المسكونيّة في المنطقة مع المجلس التبشيري الّذي أصبح في ما بعد المجمع المسيحي للشرق الأدنى ليتحوّل إلى مجمع الكنائس في الشرق الأدنى.
إذًا "الحركة المسكونيّة في الشرق الأدنى هي نتيجة عمليّة نموّ وتطوّر مرّت في خطوات مهمّة، حتّى توصّلت إلى مرحلتها الحالية الّتي نجتمع اليوم من أجلها في هذه المناسبة التاريخيّة. كانت... عمليّة انتقال من مجلس تبشيريّ إلى مجلس مسيحيّ، ومن مجلس مسيحيّ إلى مجلس كنسيّ. وكان دستور المجلس ولائحته الداخليّة تدرس وتراجع في كلّ مرحلة، ويوافق عليها كلّ الكنائس والمؤسّسات الأعضاء فيه". أمّا في قبرص فـ"توصّلنا الآن إلى مرحلة انتقاليّة مهمّة، ولكن بدون تغيير في التسمية، إذْ سنقيم مجلسًا جديدًا تحت الإسم القديم نفسه: مجلس الكنائس للشرق الأدنى، ولكنّه مجلس ذو انفتاح جديد وتوسيع في العضويّة".
من هنا أشار القسّ هوفانس أهارونيان إلى أنّ الاجتماع التأسيسي هذا جاء عقب مفاوضات ومحادثات عدّة من أجل قيام مجلس جديد، وبعد تحضير مسودّة دستور عام 1972 من قبل لجنة مشتركة تمثّل الكنائس الممثّلة، حيث قُدّم إلى كنائس معنيّة بالأمر لتوافق عليه، ليكون "بداية عهد جديد ومجلس جديد". لذا حمل أعضاء مجلس الكنائس في الشرق الأدنى (القديم) إيمانًا وآمالًا إلى هذه المؤسّسة الجديدة:
"أ- نأتي إلى هذا المجلس وفي نيّتنا أن ننسى اختلافاتنا ونحاول لأن نصل إلى ما يجمعنا، ليس معنى هذا أنّنا نتخلّى عمّا نحن عليه وننسى ما نؤمن به، ولا نعرف ما علينا أن نعمل. نحن نؤمن بأنّنا عن طريق معرفة أنفسنا ومعرفة ما نؤمن به ومعرفة ما نريد أن نتوصّل إليه، عن طريق هذه كلّها نستطيع أن نقدّم بالفعل شيئًا لروح المشاركة في هذا المجلس... إنّ وحدة الكنيسة هي من صلب طبيعة الكنيسة، أعطانا إيّاها إلهنا...
ب- الوحدة مرحلة انتقاليّة مهمّة لا بدّ منها للوصول إلى الغاية النهائيّة، كما أنّ الكنيسة وجدت من أجل العالم. الوحدة هي من أجل الشهادة. الكنيسة هي لتأدية الرسالة. عليها أن تشهد بجميع الطرق، بتقاليدها وبخدمة الصّلاة، وبالشّعائر والطقوس، وبالعبادة وبالحياة. لقد دعينا للشّهادة، وللشّهادة معًا كأعضاء في الجسد الواحد ليسوع المسيح. هذه المهمّة الّتي أوكلنا بها إلهنا...
ج- إن تعاطفنا وتعايشنا معًا هو للشّهادة، ولكنّه أيضًا يتطلّب منّا أن نخدم، لأنّنا بالخدمة نشهد ونكمل رسالتنا... الخدمة رسالة موجّهة إلى العالم: الخدمة بإسم يسوع المسيح، من أجل المحتاجين في العالم. لقد جئنا إلى هذا المجلس تلبية نداء إلهنا من أجل الوحدة، من أجل الشّهادة، ومن أجل الخدمة في هذا العالم. ونحن على يقين إنّ هذه هي مشيئة الله في المسيح يسوع إلهنا..."
بداية عهد جديد، وتحدّ جديد
بدوره ألقى الأنبا صموئيل كلمة أضاء فيها على أهميّة المنطقة حيث "ندشّن في هذه اللّحظة التاريخيّة قيام مجلس الكنائس للشرق الأدنى الجديد"؛ قبرص، "الّتي هي واحدة من بلاد الكتاب المقدّس... ذات التاريخ الأطول للحضارة. هذه المنطقة هي مهد الأديان الثّلاثة: اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام... وما تزال هذه المنطقة من الشرق الأوسط...".
كما أشار إلى أنّ مجلس الكنائس المسكوني الكنائس الغربيّة ساهم في إعادة إكتشاف كنائس الشرق، حيث "استطاع عن طريق روح الأخوّة الّتي عاشها، والإجتماعات والإستشارات وتبادل الزيارات، أن يخلق تفهّمًا جديدًا لغنى التراث المسيحي وعمقه، وشدّد على وجوب عدم إهمال مثل هذا التراث". لذا فإنّ "التعمّق لأشكال الطقوس العديدة في حياة الكنيسة من تسابيح وعبادة وشركة وحياة الجماعة والتوبة والإهتمام بالحياة الأخرويّة... بعث في الدوائر المسكونيّة شعورًا عميقًا بأهميّة المشاركة في هذا التراث".
أمّا بالنّسبة للمفاوضات فقد أوضح أنّ النيّة كانت حسنة لدى جميع الجهّات الّا أنّه "ما أخذ وقتًا طويلًا، هو إدراك الأهميّة الّتي تتعلّق بإيجاد الوسائل الّتي بواسطتها تشعر هذه الكنائس أنّ المجلس هو مجلس كلّ واحد منّا"، وقد رأى أنّ الحاجة كانت تكمن في "الشّعور الحقيقيّ بالإنتماء، وليس فقط مجرّد إجتماعات من حين إلى آخر...". لذا فسّر أنّ المشاكل الّتي حاولوا إيجاد حلول لها لم تكن مجرّد أمور دستوريّة أو قانونيّة وإنّما كانت تنبع عن شعور حقيقيّ بالمسؤوليّة المشتركة "بإنّ كلّ موضوع أو برنامج نتبنّاه يجب أن يعكس مشاعرنا الخاصّة، بأنّ المنطقة بحاجة ماسّة إلى شهادتنا المشتركة كما هي بحاجة إلى عطائنا، وبأنّ الكنيسة مستعدّة لأن تقوم بمسؤوليّاتها أنجح قيام".
من هنا فإنّ المرحلة هذه تشكّل "بداية عهد جديد، بداية تحدّ جديد"، وأنّ المسؤوليّة الّتي تقع على عاتق الجميع تتجسّد في أن "نصلّي ونعمل جاهدين حتّى نتوصّل إلى معرفة حاجات شعبنا الرّوحيّة والإجتماعيّة، ونخطّط معًا للطريقة الّتي يمكن بواسطتها لكنائس المنطقة أن تتعاون لتستجيب لهذه الحاجات، وتنقل رسالة إلهنا إلى البشريّة...".
وختم صموئيل كلمته قائلًا "... أُعدّ لنا دستورنا الجديد وقوانينه الفرعيّة ما يمكننا من الدخول في حوار مع إخواننا الكاثوليك في المنطقة على أمل أن نجتمع في يوم من الأيّام معًا في مؤسّسة مثل مجمع الكنائس في الشرق الأدنى هذا...".
حاضر الرّسالة المسيحيّة في الشرق الأوسط
خلال الإجتماع التأسيسي ألقى أيضًا سيادة المطران اغناطيوس هزيم الخطبة الرّئيسة، حيث أكّد في بدايتها على "أنّنا في هذا المجلس، ليس عندنا أي ادّعاء بأن نكون كنيسة فوق الكنائس، أو أن نكون سلطة تفرض نفسها بطريقة ما على الكنائس الشّقيقة" بل مثنيًا على "أنّنا مكان لقاء جدّي رصين وعميق، لا نكتفي فيه أن تكون الخطوط متوازية، ولكنّنا نشدّد على أنّها تصبح متقاطعة". أمّا بالنّسبة للموضوع العام "حاضر الرّسالة المسيحيّة في الشرق الأوسط" فيفسّر أنّه جاء عندما شعر بأنّه أكثر ما يجب التأكيد عليه بشكل أساسيّ هو " أنّ رسالتنا، رسالة الكنائس، ورسالة هذا الإجتماع، هي في الدرجة الأولى مسيحيّة. هذا يفترض بعدًا خاصًّا في أعمالنا...".
كما أشار "أنّنا اليوم نؤكّد أنّ المسيح هو السيّد، ونؤكّد أنّه بألوهته الكاملة وإنسانيّته الكاملة، هو طريقنا في هذه الحياة، وهو طريقنا إلى قريبنا وإلى أخينا... نحن نعتقد أنّ إنسانيّة الإنسان تتحقّق إذا كنّا نتّجه اتّجاهًا كليًّا إلى الإله الإنسان..."، مضيفًا في حديثه أنّ وحدة الثّالوث الأقدس هي وحدة المحبّة والجوهر، والّتي "نتمنّى أن نراها يومًا من الأيّام، تتحقّق في ما ندعوه "الكنائس" في الوضع الحاضر. لا بل نتوقّع أكثر من هذا، أن تكون هذه الوحدة الثالوثيّة هي الصّورة ليس فقط لاتّحاد الكنائس، بل لاتّحاد العالم بأسره". وفي الشرق الأوسط "يطلب إلينا أن نكون دائمًا في تحدّث وحوار ومواجهة للتراث الرّوحي الأصيل في هذه المنطقة من الأرض". لذا "علينا ككنائس أن نواجه" التعدّديّة، "سنواجه ما سبّبه التعدّد من قلق في حقول كثيرة...".
من ثمّ توجّه هزيم إلى عائلات المجلس الثّلاث، الشرقيّة والإنجيليّة والأرثوذكسيّة، قائلًا "نحن هنا شرقيّين خلقيدونيّين كنّا أم غير خلقيدونيّين أو من العائلات الإنجيليّة، الكلّ شرقيّون بمعنى أصيل وبمعنى أكيد، ونصّر على أن نبقى كذلك... بيننا وبين إخوتنا نشعر بمشاركة في تاريخ طويل، نشعر أنّ بيننا أسرارًا لا كلّها بل بعضها، نجد أنّ بيننا توافقًا يكاد أن يكون كليًّا في حقل العقائد"، مشدّدًا على أنّ المجلس سيسهم في تعميق الأخوّة وجعلها "واقعًا حياتيًّا عند الشّعب وعند الكنائس عامّة"... "فليصبح منذ هذه الدقيقة تعدّدنا دليلًا على تعدّد المواهب، وليس على الإنقسامات هنا وهنالك...".
حرص سيادة المطران اغناطيوس هزيم أيضًا على ضرورة المحافظة على العلاقة مع مجلس الكنائس العالمي واعدًا بانّ العلاقة هذه ستبقى قويّة ومثمرة. كما وعد بأنّ "المجلس سيجد من مهامه الرّئيسيّة أن يخدم الإنسان المسيحيّ، الإنسان المسيحيّ الّذي يتحسّس بالمسيح شخصيًّا. لقد فقد الكثيرون الحساسيّة المسيحيّة والحسّ بالمسيح"...
تحت عنوان "تصوّرات جديدة وأفضليّات جديدة"، وُجّهت كلمات عدّة تتمحور حول الوحدة، المسيحيّة في الشرق الأوسط ورسالة المجلس؛ حيث ألقاها كلّ من سيادة المطران عبّودي من بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للسّريان الأرثوذكس، السيّد اسفنديار شاهمرديان من الكنيسة الإنجيلية المشيخية في إيران، الآنسة مود نحّاس من بطريركيّة أنطاكية للرّوم الأرثوذكس، الدكتور جورج بباوي من بطريركيّة الأقباط الأرثوذكس في الإسكندريّة، مصر، والمحامي الأستاذ ألبير لحّام من بطريركيّة أنطاكية للرّوم الأرثوذكس.
من جهّة أخرى، تخلّل الاجتماع التأسيسي هذا تحيّات وتمنّيات من مجلس الكنائس العالمي حملها سيادة القسّ ألان برش، إضافةً إلى تحيّات من الكنائس الشّقيقة في الولايات المتّحدة الأميركيّة لسيادة رئيس الأساقفة كراكين سركيسيان.
المرجع: كتيّب الإجتماع التأسيسي لمجلس كنائس الشرق الأوسط - “حاضر رسالتنا المسيحيّة المشتركة”
الصور: دائرة التواصل والعلاقات العامة - مجلس كنائس الشرق الأوسط
دائرة التواصل والعلاقات العامة