الإتجار...بالبشر
هذه الكلمة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
عندما تسمع هذه العبارة، تميل إلى استطلاع رزنامتك لعلّك أخطأت في تحديد أيّ زمن أنت فيه.
هل نحن فعلًا في القرن الواحد والعشرين من زمن المتجسّد؟
هل نحن في زمن الحرّيات وحقوق الإنسان والمعرفة والإكتشافات والإختراعات التي تفخر بها البشريّة؟
إنّها حقًا لمفارقة أن يكون يوم من أيّام السنة، الثلاثين من تموز، اليوم العالمي لمكافحة الإتجار بالبشر.
في موقع الأمم المتحدة المكرّس لمكافحة هذه الجريمة، تصعقك الوقائع والمعطيات.
يعتبر الموقع أن "الإتجار بالأشخاص هو جريمة خطيرة وانتهاك صارخ لحقوق الإنسان" وهو شديد الإنتشار إذ أنّه "يمسّ الآلاف من الرجال والنساء والأطفال ممّن يقعون فريسة في أيدي المتاجرين سواء في بلدانهم أو خارجها". كما اعتبر الموقع أن لكلّ عمليّة إتجار بالبشر هناك ثلاثة بلدان معنيّة؛ بلد يُعتبَر بلد المنشأ وآخر نقطة عبور وثالث هو المقصد للضحايا.
أمّا بالنسبة إلى ما يعانيه البشر "المُتاجَر" بهم فقد بيّن ما توفّر من معطيات أنّ 50% منهم قد أستُغّل لأغراض جنسيّة، في حين أستُغل 38% منهم في العمل القسريّ. ويضيف الموقع أنّ الضحايا من الإناث يشكِّلن المُستهدفات الأساسيّات. وتشكّل النساء 46% والفتيات 19% من جميع ضحايا الإتجار بالبشر. ولا توفّر هذه الظاهرة الأطفال إذ يشكّلون ثلث الضحايا. ويضيف الموقع أنّ نسبة الأطفال قد تضاعفت ثلاث مرات بين ضحايا الإتجار المكتشفين، بينما زادت نسبة الأولاد خمس مرّات على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية.
إنّ المشهد حقًا لمأساوي!
لقد أنتج المجتمع الدوليّ بروتوكولاً يهدف إلى منع الإتجار بالبشر ومعاقبة المتاجرين بالأشخاص وتعرّف المادة 3، الفقرة (أ) منه الإتجار بالأشخاص بأشكاله المختلفة، والتي من ضمنها:
1- تجنيد الأشخاص أو نقلهم وتحويلهم أو إيوائهم بدافع الإستغلال
2- حجز الأشخاص عن طريق التهديد أو إستخدام القوّة أو أيّ من أشكال القسر أو الإختطاف أو الإحتيال أو الخداع أو الإبتزاز.
3- إساءة إستخدام السلطة أو إستغلال مواقف الضعف أو إعطاء مبالغ ماليّة أو مزايا بدافع السيطرة على شخص آخر لغرض الإستغلال.
كما يشمل الحدّ الأدنى من الإستغلال:
1- إستغلال الأشخاص في شبكات الدعارة وسائر أشكال الإستغلال الجنسي.
2- العمالة المجانيّة والسخرة أو العمل كخدم أو الإسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرِّق.
3- استعباد الأشخاص بهدف الإستخدام الجسماني ونزع الأعضاء.
أيّة نفسيّة مريضة مخضّبة بالجشع الماديّ يمكنها أن تمارس هكذا أعمال بحقّ إنسان ضعيف أكثر ما يحتاجه هو الدفء والحماية؟
أيُّ نظام إقتصاديّ او سياسي قاتل يسمح باستشراء هكذا امراض بين البشر؟
أيّة ثقافة إنسانيّة تجعل أن يشيّئ إنسان الإنسان الآخر أو يُسلّعه، فيستعمله لغايات مشجوبة إنسانيًّا ومعاقبة قانونيًا؟
عندما يصل البؤس بالإنسان لأن يصبح فريسة هكذا ممارسات، وعندما يصل الجشع بالإنسان إلى أن يعامل إنسان آخر معاملته للأشياء، مجرِّدًا إياه من إنسانيّته، فاعلموا اذًا أنّ البشريّة قد قاربت حدود البدائيّة وأن الكون قد أضحى أشبه بغابة تسرَح فيها الضواري دون ضوابط ولا روادع.
لقد أتى المتجسِّد إلى هذا العالم محطمًا القيود وحاملاً السياط في وجه تجّار الهيكل ومعلنًا بداية جديدة للبشريّة نسمّيه زمن المحبّة!
لا تستطيع المحبّة أن تتعايش مع إستعباد البشر وتسخيرهم سلعًا رخصة لمن فرغ قلبه منها!
لا تقبل المحبة ألا يكون البشر متساوون أمام الباري وأمام بعضهم البعض، يتعاونون على تسيّير شؤون حياتهم بما تيسّر لهم من خبرة ودراية.
كيف يمكن للبشريّة التي عرفت الحقّ، والحقّ حرّرها، أن تتعايش مع من يتاجر بالبشر ويعيد الإنسان إلى أزمنة حسبناها ولّت ولن تعود؟
إن مجتمعًا، يستلهم عقيدة المتجسّد في قيمه، مدعو لأن يشنّ حربًا شعواء على العبودية والرِّق وكلّ ما يؤول إليها بصلة.
إنّ مسار استعادة الكرامة الإنسانيّة الذي بدأناه في مؤسّستنا يستهدف كل أشكال الظواهر والممارسات الإجتماعيّة التي تقتل النفس قبل الجسد فيتحوّل الإنسان طوعًا "سلعة" متوفّرة لكلّ مطماع لا حدود لارتوائه. إنّ البحث الميداني المترافق مع دورات وندوات توعيّة على الكرامة الإنسانيّة، لا بدّ أن يفعلوا فعلهم في مجتمع يُخطَط له أن يدخل في زمن عبوديّة شديدة وقد رأينا ملامحها ترتسم أمامنا.
في منظومته التاريخيّة "المواكب"، يورد ابن الأرز، جبران خليل جبران، إنّ "قاتل الجسم مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر". العبوديّة، وشكلها الحديث الإتجار بالبشر، هي قتل للروح قبل كل شيء، فيصبح بعد ذلك قتل الجسد مسألة تفاصيل.
إنّ المجتمع السويّ، المحّب، لا يقبل أن يكون ساحة لهكذا مسار، والتحدّي كبير.