في يوم الأغذية العالمي: البشريّة بين الإنفصام والنِفاق
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
في السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر، يوم تأسيس منظمة الأغذية والزراعة، والمسمّى أيضًا يوم الأغذية العالمي، تنشط هذه المنظمة في تنظيم فعاليات متقدمة وغنية وجيدة التحضير من أجل رفع الوعي بما يتعلّق بالغذاء والأمن الغذائي وسوء التغذية والمجاعة والهجرة الريفيّة وكلّ ما يمتّ إلى هذه الظواهر بِصِلة.
في سياق متصل، تنهمر عليك الإحصاءات من شتّى المواقع المعنيّة بالموضوع حول المشاكل التي تعانيها الشعوب المقهورة، والفئات المقهورة من الشعوب غير المقهورة، على صعيد المأكل والمشرب والمسكن والعناية الصحيّة وغيرها من الأمور المتصلة بالأمر...ملايين من الجائعين والمشرّدين والمحرومين من أدنى شروط الحياة الكريمة والذين لا غد لهم ولا يعرفون مصيرهم والذين يعانون من مشاكل حياتيّة، الماديّة منها والنفسيّة، إحصاءاتهم ترصع صفحات المؤسسات المعنيّة بمشاكلهم وتأتي صورهم في حياة التشرّد واللجوء والبؤس لترسّخ صورة لا إنسانيّة الإنسانيّة وامتهانها الرقص على الأوجاع.
أمران يستوقفان الباحث المتبصّر هنا:
الأمر الأول هو الحصار الذي تفرضه الدول النافذة في السياسة الدوليّة على الدول المغلوب على أمرها، ويأتي هذا الحصار تحت تسمية "عقوبات"، أيّ أنّ الأقوى قد نصّب نفسه حكمًا، يعاقب الأضعف على ما اقترفه من "ذنوب وموبقات".
لقد سال الكثير من الحبر في كتابات حول الموضوع وبِحت الحناجر في الكلام حول الضرر الذي تسبّبه "العقوبات" على الشعوب وليس على الحكومات التي تدّعي الأمم المسيطرة الإقتصاص منها.
القاصي والداني يعلم أنّ كلّ ذلك يهدف إلى إخضاع شعوب معيّنة لإرادات معيّنة من أجل الوصول إلى أهداف معيّنة. وقد تحقق جزء كبير من هذه الأهداف، أهمّها تجويع الشعوب ورميها في آتون الحرمان والبؤس لفرض إرادات خارجية عليها.
أمّا الأمر الثاني فهو "الحصار" الذي تفرضه الشركات العملاقة على الأسواق عامة، وأسواق السلع الأساسيّة خاصة.
هناك أطعمة وأدوية لا يبرّر الثمن الذي تباع به إلّا احتكار الشركات العملاقة والتي ما فتئت تندمج مع بعضها البعض لكي تصبح أكثر سطوة وسيطرة على أسواق سلعها.
إنّنا نتفهّم الأكلاف التي تتكبدها هذه الشركات في تطوير سلعها، ولكن هذه الكلفة لا تبرّر السعر الذي تباع به هذه السع، أكانت غذاءً أو دواءً أو أيّ منتج آخر.
إضافة إلى ذلك، نرى أنّ هناك دول وشركات تتلف كميّات ضخمة من المواد الغذائيّة فقط من أجل عدم إغراق السوق بها وتاليًا انخفاض أسعارها، وهذه ذروة الإنفصام والكفر.
أكثر المتباكون على البؤساء والمتضامنون معهم والداعمون لهم، كما المسبّبون لهم هذه الحالة، مرجعيتهم واحدة.
لذلك نقول لهم، إرفعوا الحصارات السياسيّة والإقتصاديّة عن الشعوب التي نهبتم وما زلتم تنهبون ثرواتها وهي كفيلة بتدبر أمرها. كفّوا شروركم ومخططاتكم عن هذه المجتمعات المستضعفة وهي قادرة على إدارة شؤونها. شركاتكم المتعدّدة الجنسيات تعيث في هذه المجتمعات خرابًا كما سياسات حكوماتكم. كارتيلات النفط والسلاح تمعن في تدمير البيئة عند هذه الشعوب التي جعلتم من أرضها مكبًّا لنفاياتكم، وكلّ ما تقومون به يجري بغطاء من حاكم فاسد نصبتموه واليًا على شعبه.
أمّا أسوأ ما في الأمر فهو أن كلّ التجويع والقهر والتعتير يجري تحت مسميي الديمقراطيّة والتنمية الإقتصاديّة. القتلة الإقتصاديّون يجوبون شوارع المعمورة، تحت تسمية "مستشارون"، يورّطون الدول الغبيّة في سياسات الإفقار والتجويع.
إنّهم هؤلاء الذين تكلّم عنهم السيّد المتمرّد عليهم إذ قال "اِحْتَرِزُوا مِنَ الأَنْبِيَاءِ الْكَذَبَةِ الَّذِينَ يَأْتُونَكُمْ بِثِيَاب الْحُمْلاَنِ، وَلكِنَّهُمْ مِنْ دَاخِل ذِئَابٌ خَاطِفَة"( مت 7: 15).
ومن له أذنان سامعتان فليسمع!