السلم العالمي الهشّ
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
منذ انتهاء الحرب العالميّة الثانية وتحول الدول المنتصرة إلى الحروب الصغيرة التي تبقي النيران مشتعلة في أمكنة مختلفة من العالم، من دون المساس بالسلم العالمي وإزعاج الشعوب المترفة، لم يشعر البشر بالتهديد المصيري كما يشعرون اليوم على ضوء الحرب الدائرة في أوروبا.
أقول أوروبا ولا أقول أوكرانيا، لأن الجميع يعلم، المتخصّص في العلوم السياسيّة كما قارئ الجريدة العادي، أنّ حربًا من هذا العيار، في هذا المكان بالذات وفي هذا التوقيت، لا يمكن اعتبارها حربًا محليّة أو نزاعًا بين دولتين، محدودين في الزمان والمكان.
إنّ الحرب التي اندلعت في أوروبا، والتي قد تؤدّي إلى أذيّة أوروبا حياتيًّا في الحد الأدنى، وقد تؤدّي إلى دمار هذه الحضارة الجميلة – لا سمح الله – ليست إلّا نقطة الذروة لحروب صغيرة باردة تدور رحاها في أي مكان من العالم، حيث للدول المسماة "عظمى" مصالح استراتيجيّة حيويّة، أساسها الطاقة.
هل تتصوّرون ما يمكن أن يجري للدول الصناعيّة ذات المسافات الشاسعة والطقس الشديد البرودة في حال تدني كميّات الطاقة التي تحصل عليها؟ هل تتصوّرون المجزرة الإقتصاديّة والإنسانيّة التي سوف تقع في هذه المجتمعات؟ هل تتصوّرون الإفقار الذي سوف تتعرّض له هذه المجتمعات فقط من ناحية إستهلاك الطاقة المنزلي، هذا من دون التطرّق إلى احتمال إقفال مؤسّسات إنتاجيّة ضخمة لم تعد تستطيع تحمّل أكلاف الطاقة المتصاعدة بشكل متسارع؟ لقد بدأنا نشهد في القارة العريقة في حضارتها وثقافتها – والتي يسمّيها بعض اللئام القارّة العجوز – ارهاصات تراجع في مستوى الحياة والرفاه وأخشى أن يكون الآتي أعظم، ولا أتمنى ذلك.
نحن في لبنان نعيش هذه المأساة، منذ أن أعلنت الجماعة الحاكمة نفاذ العملات الصعبة من المصرف المركزي وتاليًا، عدم قدرة الدولة على تأمين الطاقة ودخول المجتمع اللبناني، المنهوبة مدّخراته، في العتمة الشاملة والبرد القارس وانهيار المؤسّسات الإنتاجيّة.
منذ تصاعد مفهوم العالم - المنظومة (le système-monde) والذي يعبّر عن اعتماد المجتمعات على بعضها البعض إلى درجة التبعيّة أحيانًا، وخطر القطيعة بين الدول يزداد وقد يؤدّي إلى خراب المجتمع الذي يعتمد على الآخر خصوصًا لتأمين مواده الحيويّة أو الأسواق لمنتجاته.
الحياة من باب واحد ضيّقة، تقول الحكمة الشعبيّة في لبنان، فكيف اذا اعتمدت المجتمعات الصناعيّة المتقدّمة على مصدر واحد للطاقة؟ هل نسوا أنّ شهور العسل السياسيّة تدوم دوام المصالح وتنتهي مع أحلام التوسّع والهيمنة؟ أم أنّ هناك اعتبارات مثل الكلفة والتبادل والمعاملة بالمثل تحكم هذه العلاقات؟
ما يجري في أوروبا اليوم، والذي سوف ينعكس على العالم، لا محالة، ليس إلّا غيض من فيض لما يمكن أن يجري في أيّ مكان آخر من العالم حيث هناك حروب باردة تجري في السرّ وبعض الحرائق تجري في العلن ولا أحد يأبه لها ولا يعيرها الإهتمام الذي تستحق.
ما يجري في أوروبا اليوم يجب أن يكون مصدر قلق راسمي السياسات في العالم ومقرّري مصائر الشعوب، ويحثّهم على التبصّر أكثر بمصير البشرّية التي تخسر من حياتها ومصيرها. جلَّ ما يقوله أصحاب الحلّ والربط في مصائر الشعوب أنّ هذه الخسارات ليست إلا أضرارًا جانبيّة... collateral damage. إبادة أسر أو قرى أو مدن بأسرها وإصابة الآلاف بالإعاقة الدائمة وتشرّد الملايين وتحويلهم إلى البؤس...كلّ ذلك ليس إلّا أضرار جانبيّة لأنّه، وبكلّ بساطة، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
الخصم يريد إبادة خصمه ولتدفع الناس ثمن جنون العنف!
يذهب بعض الباحثين في علوم الإجتماع والسياسة إلى أنّ المجتمع الصناعي لا يمكنه العيش والإستمرار إلّا بواسطة الحرب لأنّ أكلاف الحرب واكلاف ما بعد الحرب هي التي تحرّك العجلة الإقتصاديّة وتؤمّن الإستثمار. بؤسها من نظرّية ومن نظرة، تُخضع حياة الإنسان لاعتبارات أرباح الشركات العملاقة المتحكّمة بمصير الإنسانيّة.
المؤسف في ذلك أنّ التيارات الإنسانيّة واتجاهات ما يسمّى المسؤوليّة الإجتماعيّة للمنشأة لا يمكنهم لجم هذا المنحى الجامح نحو الإستهلاك الذي يجد ذروته في الحرب.
رغم كلّ التقدم الإنساني والثقافي، نرى أنّ الجنس البشري ما زال على قاب قوسين أو أدنى من العودة إلى الغابة، إلى جنون العنف، العنف المجهّز بأفضل التقنيات من أجل فعالية أكثر في الإبادة.
هل يُعقل أن يكون مصير الإنسانيّة معلّقًا على زرّ أحمر يضغط عليه إنسان؟
"طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ." (مت 5: 9).