الإنسان الحديث بين العِلم والجهل
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
حدّدت منظمة اليونسكو عام 2001، العاشر من تشرين الثاني/نوفمبر على أنّه اليوم العالمي للعلوم من أجل السلام والتنمية "ويسلّط هذا اليوم الضوء على الدور المهم للعلم في المجتمع والحاجة إلى إشراك الجمهور على نطاق أوسع في المناقشات المتعلقة بالقضايا العلميّة الناشئة. كما أنّه يؤكد كذلك أهمية العلم وملاءمته في معايشنا اليوميّة." كما ورد على موقع المنظمة المعنية.
إضافة إلى ذلك، يتوخى هذا اليوم "ربط العلم بشكل أوثق بالمجتمع" وكذلك "ضمان إطلاع الجمهور العام على المستجدات العلميّة".
كما يحمّل هذا اليوم العلماء المسؤوليّة " في توسيع المدارك فيما يتصل بالأرض التي نعيش عليها وهشاشتها كذلك مما يدفع إلى العمل لجعل مجتمعاتنا أكثر استدامة".
أمّا الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة في 2 كانون الأول/ديسمبر 2021، فقد أكدت إقتراح "إعلان عام 2022 بوصفه السنة الدوليّة لتسخير العلوم الأساسيّة لأغراض التنمية المستدامة" معتبرة أنّ تطبيقات العلوم الأساسيّة تلعب دورًا حيويًّا في تحقيق التقدّم في شتّى مجالات حياة الإنسان الأساسيّة التي تشمل الطبّ والصناعة والزراعة والموارد المائية وتخطيط الطاقة والبيئة والإتصالات والثقافة على سبيل المثال لا الحصر.
وتفيدنا منظمة اليونسكو على موقعها أنّ الإحتفال السنوي باليوم العالمي للعلوم كلّ يستهدف الوصول إلى "عقد إجتماعي جديد للعلوم" مما يحمّل العلم والعلماء مسؤولية اساسية في "إقامة مجتمعات مستدامة". إضافة إلى ذلك، يضمن هذا العقد اطِّلاع الناس على "التطورات التي تحدث في مجال العلوم ويمكّنهم من المشاركة فيها". عبر ذلك يكون اليوم العالمي للعلوم قد ساهم في رفع الوعي لدى عامة الناس عن فائدة العلوم في حياته اليومية. إضافة الى ذلك، يطلق هذا اليوم الحوار حول الأمور الجانبية المرتبطة بمسألة العلوم والمجتمع.
والجدير ذكره هنا أنّ اليوم العالمي للعلوم من أجل السلام والتنمية قد حمل للعام 2017 شعار "تسخير العلوم لتحقيق التفاهم على الصعيد العالمي" لما لذلك من تأثير في تحقيق السلام والتنمية المستدامة وذلك "نظرًا لمساهمته في تعزيز التزام الأفراد والمجتمعات المحليّة بتشاطر المعارف من أجل تحفيز العمل والتغيرات السلوكيّة". كلّ ذلك مبني على قاعدة أنّ للعلوم دور أساس في التفاهم بين المجتمعات لأنّها تسهّل لنا فهم المجتمع والحياة والكون إضافة إلى تسهيل التغيير والتنمية الإجتماعيين، هدف كلّ شعب يتطلّع إلى مستقبل أفضل.
لا شك في أنّ هكذا مناسبة تطرح عددًا من الإشكاليات - الأسئلة التي ترافق حياتنا بشكل يومي كما على المدى الإستراتيجي أيضًا.
الإشكالية الأولى تتعلّق بإنتاج العلم وتمويل هذا الإنتاج وتاليًا ملكية واستثمار هذا الإنتاج عبر تسويقه كمادة يحتاجها المجتمع. إنّ كلفة البحث العلمي وإنتاج السلع لا يبرّران الأسعار الباهظة لهذه المنتجات في السوق. السؤال البديهي الذي يُطرح هنا هو: من يراقب تحديد أسعار السلع الإبتكاريّة التي تنتج عن الأبحاث العلمية وهل هذه السلع مملوكة من هيئات إحتكارية؟
الإشكالية الثانية تتعلّق بمحتوى نتيجة البحث العلمي. هل لهذه النتيجة تأثير على البشرية إفراديًّا أو جماعيًّا؟ هل لها تبعات على صعيد أمن الناس أو الأمن القومي؟ تاليًا، إلى أيّ مدى يمكن أن تؤثر منتجات بعض الأنواع من الأبحاث على سير حياة الناس والمجتمع سلبًا أم إيجابًا؟
الإشكالية الثالثة تتعلّق بتعميم نتائج البحث العلمي على الناس وجعلها بمتناول يَدِهم بشكل حرّ. هذه الإشكالية، والتساؤلات التي قد تنتج عنها، مستندة إلى واقع أنّ الكثير من البحوث تموّل من حكومات وهذه الحكومات لا تضع شروطًا على الباحثين ولا على نتائج بحثهم، مما يعني أن عليهم وضع نتائج البحث بتصرّف العامة إذا كان من الممكن إستعماله مباشرة.
الإشكالية الرابعة هي حول شروط البحث العلمي. هل احترم الباحثون في مجال ما، مختلف الشروط التي تحمي الإنسان والبيئة؟ بمعنى آخر، ليس من مصلحة الإنسان أن يطوّر ناحية ما من نواحي حياته على حساب نواحٍ أخرى أو ناس أُخَر.
الإشكالية الخامسة تتمحور حول البيئة الحاضنة لمُخرجات البحث العلمي. هل البيئة الإجتماعيّة والثقافيّة والتقنيّة حيث تجري هذه الأبحاث قادرة على استيعاب منتجات هذه الأبحاث والإستفادة منها؟ هناك التوقيت الثقافي كما التوقيت التشريعي كما التوقيت التقني، وجميعها شروط أساسيّة للاستفادة من نتائج البحث العلمي على الصعيد المجتمعي.
أمّا الأمر الذي يشغل بال المعنيين فهو الفجوة البحثيّة المتواجدة بين المجتمعات، تمامًا كالهوّة الإلكترونيّة التي تفصل العالم المتقدِّم عن العالم النامي. هنا لا يمكنني أن أتوقع أن يكون البحث العلمي وإنتاجه متساويًا بين الدول الصناعيّة المزدهرة والثرية، والدول النامية والفقيرة، حيث أنّ الأولى هي متقدمة بأشواط على الثانية وتقوم باستقطاب الباحثين والعلماء المحبطين من الثانية. إنّ تساوي الفرص والعدالة معدومين في هذا المجال. لذلك يتساءل المهتم بالأمر إلى أي مدى يمكن أن تكون الأبحاث، في العلوم الأساسيّة خصوصًا، وسيلة استدامة في التنمية الإجتماعيّة ووسيلة سلام بين الشعوب.
إنّنا نخشى أن يكرّس البحث العلمي الشرخ بين أمم غالبة وأمم مغلوب على أمرها، تقبع في مستنقعات الإذعان والتبعيّة خصوصًا أن استثمارات الأمم الغالبة في اقتصادات الأمم المستضعفة لا تسمح لتلك بالتقدّم، لا بل تزيد من تبعيتها.
مقابل ذلك، لا يمكننا أن نطلب من المجتمعات القادرة على البحث العلمي عدم القيام به، لأن كلفة الجهل هي أكبر بكثير من كل أكلاف العلم.
هذه مفارقة لا يمكن حلّها إلا بالمحبة التي تتحدّى العقل العلمي والإداري للباحث والمستثمر معًا. فليتذكروا أنّ الخالق والمجتمع هما كليهما وراء نجاحاتهم ولينصفوا الناس بأن لا يستغلوا جهلها أو حاجتها.
نحن حقًا بحاجة إلى عقد اجتماعي جديد للعلوم قوامه العدالة والإنسانيّة.