خطاب في الكراهية

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط 

كم أكرهك أنت أيّها الآخر المختلف عنّي،

كم وددت لو أنّك لم تكُن موجودًا إذ أنّك تأخذ من حيّزي وتشرب من مائي وتتنفس من هوائي،

وجودك ليس شرعيًّا في نظري فأنت من أخطاء التاريخ والطبيعة،

أنت وليد صدفة ليتها لم تحصل،

ما الذي جلبك من العدم إلى الوجود أيّها الذي لا يشبهني،

لونك يختلف عن لوني، كذلك شكل أذنيك وشفتيك وعينيك ولون شعرك،

طريقة جلوسك ومشيتك وكل إيماءات جسدك أجدها مقيتة لا تمّت إلى ما أستسيغ،

مأكلك ليس من مأكلي ومشربك ليس من مشربي،

لباسك مختلف ومسكنك مختلف وكذلك عاداتك وتقاليدك،

كلماتك ليست من كلماتي ولا لغتك ولا لهجتك ولا حتى ضحكتك أو نغمة صوتك التي تزعجني،

قيمك ليست من قيمي وكذلك فنونك، موسيقاك ورسمك ونحتك وكل مقوّمات ثقافتك،

طريقة تفكيرك ومنطقك أرفضها وأجدها ساقطة ودون معنى،

حضارتك أجدها بدائيّة موروثة من أزمنة غابرة ولا مكان لها في منظور إعجابي،

كيف تتجرّأ أنت أيّها المختلف عني أن تتوق إلى تقليد نمط عيشي؟ ... حتى ولو بالحلم!

كيف تتجرّأ أن تدخل مدارسي وجامعاتي وفنادقي ومسابحي وأماكني العامة؟

أنت لست مثلي ولست مني بشيء لا من حضارتي ولا من ثقافتي!

أنت في كتابي هامش لا نريد أن نقرأه!

أنت في قاموسي شيء ليس له إسم!

أنت في نظري شيء ليس أكثر ولا أفهم سبب وجوده إلا إذا أردت "استعماله"!

أيّها المختلف عنّي، بالعرق والإثنيّة والدين والطائفة والطبقة، أنا لا أراك!

هذه نماذج من أشكال التفكير العنصري أو التمييزي يتجلّى بخطاب كراهية يصل إلى حد الإلغاء.

نعم الإلغاء النفسي المعنوي الذي قد يكون أحيانًا مقدمة للإلغاء الوجودي.

الناس متمايزون تمايز الحضارات والثقافات والهويّات.

تتمايز الجنسيات عن بعضها وقد تتمايز جماعات من نفس المجتمع عن بعضها البعض، وقد تعيّر بعضها البعض. وإذا لم يكن هناك وعي أنّ الإنسان ابن متَحَدِه الذي ضمنه يتفاعل، فقد يتحوّل التنوّع إلى تمييز قاتل.

التمييز بين الناس قديم قدم الإنسانيّة ولكن المعضلة تكمن في أنّه في الألف السادس بعد ولادة الحضارة في سومر، ما زال هناك أناس وجماعات يعتمدون العنصرية وكأن الحضارة بدأت أمس أو أنّ المجتمعات قد تكوّنت البارحة.

التمييز مرض نفسي اجتماعي لا يقتصر على العلاقة بين المختلفين ثقافيًا، بل يشمل فئات نفس المجتمع، ولم تُستثن حتى الطبقات من هذا التمييز.

إنّها الغربة!

غربة الإنسان عن نفسه وعن مجتمعه وعن إنسانيته.

أن تُقَيّم شخصًا أو تصنفه أو تتعامل معه على أساس معايير غير تلك التي ترعى علاقتك به فهذا ضرب من ضروب التخلّف وهو دليل تفسخ إجتماعي لا بد أن يفضي بالمجتمع الذي يحتضنه إلى الهلاك.

كم هي مقيتة مشاعر التمييز، وليس أكثر بشاعة منها إلا مفاعيلها.

اما الامر الذي يشغل البال فهو ان هذه المشاعر وهذه الممارسات، كما خطاب الكراهية المصاحب لهم، يعيشون حقبة ازدهار رغم كل الأنشطة التي تقوم بها المنظمات الدولية على أنواعها.

الحراك الدولي للعمالة والنزوح واللجوء قد ازكوا مشاعرا وسعروا خطابا لا يبشران بالخير لمستقبل بشرية تتحول الى مجتمعات فسيفسائية بحكم موجات العمالة الوافدة والتحولات الدولية.

من منطلقنا كمؤسّسة مسيحية عملت على حقوق الإنسان منذ نشأتها، وتعمل اليوم على إعادة تكوين الرأسمال الإجتماعي وصيانة الكرامة الإنسانيّة في مجتمع فقد أدنى مقوّمات الحياة الكريمة، نغرف من أصول عقيدتنا المسيحيّة المشرقيّة وننهل من القيم التي نطق بها السيّد المتجسّد قبل أن يسير طريق الجلجلة وينزف على الصليب من أجل خلاص الإنسانيّة من آثامها، والعنصريّة والتمييز والكراهية أهمّها.

لقد ورد في إنجيل متى (متى 25:35 -40) أن المسيح المتجسّد قد خاطب قائلاً "جعت فأطعمتموني. عطشت فسقيتموني. كنت غريبًا فآويتموني. عريانًا فكسوتموني. مريضًا فزرتموني. محبوسًا فأتيتم إليّ.  فيجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا ربّ، متى رأيناك جائعًا فأطعمناك، أو عطشانًا فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريبًا فآويناك، أو عريانًا فكسوناك؟ ومتى رأيناك مريضًا أو محبوسًا فأتينا إليك؟ فيجيب الملك ويقول لهم: الحق أقول لكم: بما أنّكم فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي فعلتم."

كما ورد أيضا في الكتاب المقدس "لا تنسوا إضافة الغرباء، لأنّ بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون.  أذكروا المقيّدين كأنّكم مقيدون معهم، والمذلّين كأنّكم أنتم أيضًا في الجسد" (عبرانيين 13 :2)

أورد هنا ايضًا نصًا من الصلاة الطقسيّة الأنطاكية لعشية الجمعة العظيمة، وهو نصّ يتمحور حول الغريب:

"إن يوسف ، لما شاهد الشمس قد أخفت أشعتها وحجاب الهيكل قد أنشقّ لموت المخلص، دنا من بيلاطس وتضرّع إليه صارخًا :
أعطني هذا الغريب، الذي منذ طفولته اغترب كغريب .
أعطني هذا الغريب، الذي أماته أبناء جنسه كغريب .
أعطني هذا الغريب، الذي أدهش  لمشاهدتي إياه ضيفًااللموت .
أعطني هذا الغريب، الذي يعرف أن يقري الفقراء والغرباء .
أعطني هذا الغريب، الذي غربه اليهود من العالم حسدًا .
أعطني هذا الغريب، لكي أواريه في لحد .
أعطني هذا الغريب، الذي بما أنّه غريب ليس له موضع يسند إليه رأسه .
أعطني هذا الغريب، الذي لما رأته أمّه ميتًا صرخت : يا ابني وإلهي، وإن كانت جوانحي تتجرح، وكبدي تتمزّق عندما أراك ميتًا، فأنّي واثقة بقيامتك فأعظمك .
بهذه الأقوال يوسف التقي ابتهل إلى بيلاطس، فأخذ جسد المخلّص ، وبخوف لفّه بكفن ووضعه في قبر هو المانح الكلّ الحياة الأبديّة وعظيم الرحمة ".

لقد تماهى السيّد مع ثقيلي الأحمال والمهمّشين والمضطهدين والمرذولين والغرباء في محاولة منه لمصالحة الجنس البشري مع نفسه تفاديًا للكوارث التي تعيشها، والتي قد تتهيّأ لأسوأ منها، البشرية الجشعة المصابة بعمى البصيرة.

السيّد المتجسّد، هو سيّد المحبة التي تزيل العوائق بين بني البشر على مختلف انتماءاتهم، وكلّما اغترب المجتمع الإنساني عن المسيحيّة كلّما اغترب عن المحبة وتنكّر لنفسه ولإنسانيته.

الأقنعة كثيرة، والحواجز أكثر ولا سبيل إلى إزالة هذه وتخطّي تلك إلا بالتربية على المحبة.

تنقصنا محبة.

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

مناهضة العنصريّة والتميّيز في حلقة حواريّة بدعوة من مجلس كنائس الشرق الأوسط