مقاربة ديموغرافية واقتصادية- اجتماعية لمسيحيي الشرق الأوسط، ولشروط الاستمرارية فيه

محاضرة البروفيسور ابراهيم مارون في اليوم الثاني من الجمعيّة العامة الثانية عشرة لمجلس كنائس الشرق الأوسط

في اليوم الثاني من الجمعيّة العامة الثانية عشرة لمجلس كنائس الشرق الأوسط، الثلاثاء 17 أيّار/ مايو 2022، والمنعقدة في وادي النطرون في مصر، وجّه البروفيسور ابراهيم مارون وهو استاذ الإقتصاد وعلم الإجتماع الإقتصادي والإدارة الماليّة وإدارة المواردة البشريّة في الجامعات اللّبنانيّة واليسوعيّة والروح القدس منذ العام 1979، محاضرة اجتماعيّة، اقتصاديّة وجيوسياسيّة بعنوان "ديموغرافيّة مسيحيّي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بين بداية القرن العشرين والعقد الثاني للقرن الواحد والعشرين".

في التالي النصّ الكامل لهذه المحاضرة:

 

"مقاربة ديموغرافية واقتصادية- اجتماعية لمسيحيي الشرق الأوسط، ولشروط الاستمرارية فيه"

البروفيسور ابراهيم مارون

أصحاب القداسة، والنيافة والغبطة، وحضرات الأخوات والقسس والأباء، ومندوبات ومندوبي الهيئات الدولية، وسائر الحضور الكريم،

يشرفني جداً أن أعرض أمامكم نتائج دراسة ديموغرافية واجتماعية – اقتصادية لمسيحيي الشرق الأوسط، ولشروط استمراريتهم في هذا الشرق، أعددتها بطلبٍ من أمانة سر مجلسكم الكريم.

فخلال جمعي لمعطيات هذه الدراسة، لم أقع إلا على تعابير تشاؤمية استخدمها باحثون، ولا يزالون منذ سبعينات القرن الماضي، للدلالة على الوضع الذي وصل اليه مسيحيو الشرق الأوسط. من هذه التعابير:

- "لعنة مسيحيي الشرق" (Jean François Colosimo)

- "النفس الأخير لمسيحيي الشرق" (Carole Dagher)

- "مسيحيو الشرق، مرايا الفشل السياسي للعالم العربي"(Pierre Blanc)

- "مسيحيو الشرق على طريق الإندثار" (Paul Balta)

- "نهاية مسيحيي الشرق" (Didier Martiny)

إن هذه التعابير وسواها من التي شكلت عناوين للعديد من الأبحاث، تدل بالطبع عن مسارٍ انحداري لمسيحيي الشرق غير قابل للشك، لن أتطرّق لجميع أسبابه، سيما وسبقني لذلك البروفسور ميشال عبس من خلال محاضرة حول المرحلة الانتقالية في الشرق الأوسط، ودور ومستقبل المسيحيين فيه، ألقاها منذ سنة بالتحديد للكنائس الأميريكية، عرض فيها بإسهاب ودقة وموضوعية أسباب هذا الإنحدار.

إنما هذا المسار الإنحداري لمسيحيي الشرق الأوسط، من شأنه إثارة بعض الأسئلة أو التساؤلات، منها:

- هل هذا المسار الإنحداري هو حتمي، وبالتالي ميؤوس منه؟

- أم هناك بالأحرى من مجال للعمل على ايقافه، أو أقله فرملته؟

- في العقدين الماضيين، طرأت بعض التحولات في الشرق الأوسط، التي من شأنها فرملة هذا المسار الإنحداري، هل يمكن التعويل عليها؟

سأحاول في هذه المداخلة، الإجابة بقدر الإمكان على هذه الأسئلة أو التساؤلات، إنما بعد أن أعرض عليكم بعض المؤشرات الديموغرافية والإجتماعية – الإقتصادية، لوضع مسيحيي الشرق، مع العلم أن هذا الوضع يختلف من بلد لآخر، وحتى من بيئة لأخرى داخل البلد الواحد.

 

1-   المؤشرات الديموغرافية

قبل أن أعرض لكم هذه المؤشرات، من الضروري لفت النظر الى أن المعطيات الديموغرافية التي أوردتها في الجدول رقم 1 حول الحجم السكاني للمسيحيين في بلدان الشرق الأوسط، هي ليست نتائج لمسوحات ديموغرافية، لأن هذه المسوحات لا تأخذ بعين الإعتبار الإنتماء الديني للسكان في الأكثرية الساحقة لهذه الدول، لكي لا أقول بجميعها.  وبالتالي، إن معطيات هذا الجدول هي تقديرات لعدد كبير من الباحثين استقوا معلوماتهم من عارفين، لا سيما من قسس وكهنة الرعايا الذين من المحتمل أن يكون لبعضهم نزعة لتضخيم عدد رعاياهم، في حين أن البعض الآخر من القسس والكهنة من المحتمل أن يُغيّبوا من تقديراتهم أبناء رعاياهم الذين لا يرتادون دور العبادة، مما يجعل من الصعب التعرّف عليهم، خاصة إذا كانوا من سكان المدن.  فلهذه الأسباب، إن معطيات هذا الجدول، لا تعكس بالدقة العلمية المطلوبة الوضع الديموغرافي للمسيحيين في دول الشرق الأوسط، بل تعطي صورة تقريبية أو تأشيرية لهذا الوضع.

المصادر : تم تركيب هذا الجدول بالاستناد الى المراجع الاتية :

·        Antoine Fleyfel, Géopolitique des chrétiens d’Orient.  Défis et avenir des chrétiens arabes, l’Harmattan, 2013, pp.184-185.

·        Bernard Heyberger, « Les chrétiens d’Orient entre le passé et l’avenir », in Les Cahiers de l'Orient 2009/1 (N° 93), pp.9 – 2.

·        Christian Lochon, « Chrétiens d’Orient » in Perspectives & Réflexions n° 1-2013

·        Didier Martiny, « La Fin des chrétiens d’Orient ? » [archive], documentaire, France, 2016,  ARTEFrance

·        Ignacio Fuente Cobo, “Christians of the Orient” (I): who are they?, where do they come from?, how many of them are there? In Analysis 18th March, 2015, Spanish Institute of Strategic Studies.

·        Paul Balta, « L'exode des chrétiens d'Orient »in Confluences Méditerranée 2004/2 (N°49), pp. 161- 165

·        Pierre Blanc, « Les Arabes chrétiens, miroirs des échecs politiques du monde arabe » in Hérodote 2016/1-2 (N° 160-161), pp. 239-258.

·        بيير تريستام، مسيحيو الشرق الأوسط: حقائق كل بلد https://eferrit.com/

·        سكان العالم العربي عام 2021 alamarabi.com

·        مايكل لاشيفيتا، احصائيات “جمعية الرعاية الكاثوليكية في الشرق الأدنى” (CNEWA) التابعة للكرسي الرسولي، جريدة “النهار”.

·        وكالة المخابرات المركزية،  سكان الدول العربية عام  2016 "The World Factbook"، cia.gov

 

بما يتعلّق بالوضع الديموغرافي لهؤلاء المسيحيين، لا حاجة للتذكير بأن كل هذه المنطقة التي تُسمّى اليوم "الشرق الأوسط"، كانت حتى العام 648 (تاريخ أول فتح إسلامي) شبه حصرياً مسيحية، باستثناء بعض الجزر السكانية اليهودية (Balta, 2004).  أما اليوم فتتراوح نسبة المسيحيين بين 3.2 و 4.2 % من مجموع سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بينما كانت تتراوح هذه النسبة بين 12 و 15 % في بداية القرن العشرين، كما يدل هذا الجدول.

غير أن هذا التراجع في نسبة المسيحيين، ليس وليد تراجع في عددهم الذي ارتفع من  6.920.000 بحد ادنى أو 7.490.000 بحد اقصى في بداية القرن العشرين، الى 18.127.000 بحد ادنى أو 24.129.000 نسمة بحد اقصى في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، كما نلاحظ من خلال هذا الجدول.  وهذا الإرتفاع في عدد المسيحيين نشهده في الأكثرية الساحقة من دول الشرق الأوسط، باستثناء تركيا واسرائيل وايران والعراق.  أما في الدول العربية، فارتفع عدد المسيحيين من  3.700.000 بحد ادنى او.270.0004. بحد اقصى  في بداية القرن العشرين، الى 17.715.000 بحد ادنى أو 23.487.000 بحد اقصى في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، حسب معطيات هذا الجدول.

كما أن هذا الإرتفاع في عدد المسيحيين يدل على أن معدل الإستبدال أو الإحلال (taux de remplacement – Replacement rate)الذي حددته الأمم المتحدة ب 2.1 ولد للزوجين، هو لا باس به عندهم، بحيث لو لم يكن متوسط عدد الأولاد للأسرة عند هؤلاء المسيحيين أعلى من معدل الإستبدال أو الإحلال هذا، أي أعلى من 2.1 ولد، لما ارتفع عددهم بين بداية القرن العشرين والعقد الثاني من القرن الوحد والعشرين.

وهذا ما يشير الى أن تراجع نسبة المسيحيين وليس عددهم، هو ناتج عن إتساع الفارق في معدل النمو السكاني بينهم ومواطنيهم من غير المسيحيين. ويعود هذا الفارق بالدرجة الأولى الى هجرة المسيحيين الى خارج منطقة الشرق الأوسط، طوال حوالي 140 سنة، لا سيما هجرة الشباب التي جعلت معدل الخصوبة (Taux de fécondité – Fertility rate)، أي متوسط عدد الأولاد للنساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 15 و 44 سنة، أدنى مما هو عليه عند مواطنيهم من غير المسيحيين الذين يبلغ معدل الخصوبة عندهم حالياً حوالي 3.2 ولد (U.N.Departement of economic and social affairs, 2015).

أما اللافت للنظر، فهو ارتفاع عدد المسيحيين المقيمين في دول مجلس التعاون الخليجي، من حوالي مليون نسمة في العقد الأخير للقرن العشرين (Fleyfel, 2013)، الى 3.515.000 نسمة في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين حسب معطيات هذا الجدول، ولو أن بعضهم هو من غير مسيحيي الشرق الأوسط.  وهكذا، بات هؤلاء المسيحيون يشكلون 15 % من سكان البحرين، و 13.8 % في قطر، و 9 % في الإمارات العربية المتحدة، و 7 % في الكويت، و6.5% في عمان، و 4 % في المملكة العربية السعودية، فتحولت هذه الدول العربية الخليجية الى مثابة درع في وجه هجرة المسيحيين الى خارج الشرق الأوسط.  وهذا ما يمكن اعتباره ظاهرة أو عاملاً لا يُستهان به، من شأنه فرملة هجرة المسيحيين الى خارج الشرق الأوسط في السنوات المقبلة.  وهو مع الأسف العامل الوحيد حتى الآن في هذا المجال، بغياب عوامل أخرى يمكن العمل عليها.

أما من حيث توزع المسيحيين على دول الشرق الأوسط، فيشكل حالياً مسيحيو مصر بين   39.5 و 50.1 % من مجموع هؤلاء المسيحيين، والمسيحيون المقيمون في دول الخليج العربي 12.4 %، ومسيحيو لبنان بين 11.4 و 13 %، ومسيحيو سوريا 7.2 %، حسب معطيات هذا الجدول.

غير ان احدى اخر التقديرات تشير الى ان عدد المسيحيين في مصر قد بلغ 18 276 000  في السنة الماضية. فاذا صح هذا الرقم، قد يشكل مسيحيو مصر عندءىذن حوالي ثلثي مسيحيي الشرق الاوسط وشمال افريقيا.

 

1-   الوضع الإجتماعي الإقتصادي

العماد الإقتصادي الأساسي لمسيحيي الشرق الأوسط، كان ولا يزال التعليم، بحيث كانوا من الأوائل في هذه المنطقة الذين كان لهم البديهة أو الإلهام الروحي من أن يستثمروا في تعليم أولادهم، أي الإستثمار في تكوين رأسمال بشري اقتصادياً كفوء.  وكان ذلك قبل قرن تقريباً من أن تبدأ النظريات الإقتصادية (Th. Shultz, G. Becker)في بداية ستينات القرن الماضي، اعتبار الإنفاق على التعليم استثماراً اقتصادياً بامتياز، وجعل الرأسمال البشري في صدارة الرساميل الأخرى – أي الرأسمال النقدي، والرأسمال التكنولوجي، والموارد الطبيعية – في توليد النمو الإقتصادي، وإحداث الترقّي الإجتماعي.

وهكذا شكّل هذا الرأسمال البشري المسيحي، حاجةً إقتصادية أساسية لمعظم دول الشرق الأوسط، نظراً لندرته حتى بداية ثمانينات القرن الماضي.

إنطلاقاً من هذا الإطار، سأتطرّق الآن الى أربع فئات إجتماعية – إقتصادية مسيحية، محاولاً من خلالها إعطاء فكرة عامة عن الوضع الإجتماعي – الإقتصادي لمسيحيي الشرق الأوسط، رغم أن هذه المحاولة صعبة ودقيقة، نظراً لاختلاف هذا الوضع بين بلد وآخر، مما يستدعي التركيز على ما هو مشترك لأوضاع هؤلاء المسيحيين.

 

1.2- فئة المتعلمين والإختصاصيين

نشأت هذه الفئة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في بعض دول الشرق الأوسط، وفي النصف الأول من القرن العشرين في دول أخرى.  وساهمت في إعدادها مدارس وجامعات الكنائس والإرساليات الأجنبية، وفق برامج تعليمية مُستمدة من الغرب، مما أكسب هذه الفءة كفاءات مهنية لا يُستهان بها، فضلاً عن إتقانها اللغات الأجنبية، مع التذكير بأن هذا الإعداد لم يكن في أغلب الأحيان مجانياً. ونظراً لندرة هذه الفئة من المسيحيين في مجتمعاتها الشرق أوسطية، تحوّلت الى حاجة لمجتمعاتها، لسد فراغات واسعة في القطاع التربوي، والإدارات العامة، والكادرات العليا في المؤسسات الإقتصادية، والقضاء، والمهن الحرة كالطب والهندسة والصيدلة، والأعمال الإستشارية، والبحث العلمي، الخ.وشكل لها هذا الاعداد مصدر إثراء وتحسين وضعها الإجتماعي.

واستمرت هذه الفئة إشغال هذه المناصب والمهن بدون منازع جدّي حتى ثمانينات القرن الماضي، عندما بدأت الدول العربية تحرير قطاعها التربوي، بالسماح للقطاع الخاص إنشاء مدارس وجامعات ذات مستوى إعدادي شبيه بالمدارس والجامعات المسيحية، إن لم يكن الأفضل في بعض الأحيان.

ففقدت هذه الفئة من المسيحيين المتعلمين والإختصاصيين، عامل الندرة وميزتها التفاضلية التي تمتعت بها طوال عقود من الزمن، فانحسر دورها لا سيما في القطاع العام.  كما أن الحروب والاضطرابات الأمنية التي شهدتها معظم دول الشرق الأوسط في العقود الثلاثة الماضية، والتي أدّت الى أزمات إقتصادية وتدهور في الوضع المعيشي، فضلاً عن الفائض في عدد الإختصاصيين، دفعت بالعديد من أصحاب المهن الحرة من أطباء ومهندسين وغيرهم من المسيحيين وغير المسيحيين، الى الهجرة صوب الغرب أو نحو دول الخليج العربي.

صحيح أن حضور هذه الفئة من المسيحيين لا يزال مقبولاً في معظم دول الشرق الأوسط، إلا أن وضعها الإقتصادي والإجتماعي، ودورها الثقافي والتربوي والعلمي، هما على تراجع حالياً، إما بسبب منافستها من غير المسيحيين، أو من جرّاء التمييز الديني الذي يشوب التعيينات في الإداراة العامة، والقوى العسكرية، والقطاع العام التربوي...، إلا إذا كان المسيحيون موالين للسلطة الحاكمة في هذه البلدان.

2.2- أصحاب المؤسسات الإقتصادية

تشمل هذه الفئة الصناعيين والمصرفيين والتجار والمقاولين في قطاع البناء، وأصحاب الفنادق والمطاعم، وسائر المستثمرين المسيحيين في القطاعات الإقتصادية الأخرى.

لعب هؤلاء المسيحيون حتى نهاية خمسينات القرن الماضي، دوراً اقتصادياً كبيراً في بلدانهم الشرق أوسطية، بحيث ساهمت استثماراتهم في النمو الإقتصادي، وفي التحديث الإقتصادي، وفي خلق فرص عمل للمسيحيين ولغير المسيحيين في بلدانهم.  وكان لفرص العمل هذه، دور أساسي في تثبيت المسيحيين في أرضهم.

غير أن الأنظمة ذات الطابع الإشتراكي التي استلمت الحكم في العديد من الدول العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي، ولجأت الى تأميم المؤسسات الإقتصادية الكبرى، قضت على هذه الشريحة من المستثمرين المسيحيين وغير المسيحيين على حدٍ سواء.  فلجأ بعضهم الى الغرب والبعض الآخر الى لبنان ذات النظام الإقتصادي الليبرالي، حيث انضموا الى المستثمرين الفلسطينيين المسيحيين الذين سبقوهم اليه على أثر نشوء دولة إسرائيل عام 1948، وساهموا جميعاً مع المستثمرين اللبنانيين في النمو الإقتصادي لهذا البلد، حتى خلال الحرب اللبنانية (1990-1975) التي دامت 15 عاماً.  أما مؤسساتهم الإقتصادية التي استولت عليها الدولة في مصر وسوريا والعراق ودول عربية أخرى، فأودت بها الخسائر المالية الناجمة عن سوء إدارتها من قبل القطاع العام،  فخسر المسيحيون العاملون فيها فرص عملهم، وانضموا الى قافلة المسيحيين المهاجرين الى الغرب.

وانضمّ أيضاً الى هذه القافلة، العديد من المسيحيين أصحاب المؤسسات الإقتصادية المتوسطة والصغيرة الحجم، الذين لم يفلتوا من عواقب السياسات الإقتصادية ذات الطابع الإشتراكي.

وهكذا، فقدت هذه الدول رأسمالاً بشرياً من المستثمرين يشكل العامود الفقري لكل إقتصاد، ويتطلب إعادة تكوينه عشرات السنين، إذا سمحت الظروف بذلك.

أما في لبنان الذي شكل ملجأ للمستثمرين العرب المسيحيين وغير المسيحيين، فإن إقصاء ألمسيحيين من القرار الإقتصادي والسياسي على صعيد الدولة، منذ بداية تسعينات القرن الماضي، ساهم في اعتماد سياسات إقتصادية ومالية فئوية وبهلوانية بمشاركة بعض المسيحيين فيها، أوصلت البلد الى أزمة رباعية، إقتصادية ومالية ونقدية ومصرفية، ضربت في الصميم أربعة قطاعات إقتصادية يسيطر عليها المسيحيون هي: القطاع المصرفي والصحي والتربوي والسياحي، وأعادت تموضع المستثمرين الكبار، ليس خارج الشرق الأوسط، بل مع حسن الحظ، في دول عربية فيها بعض الإستقرار السياسي والإقتصادي والأمني، كمصر ودول الخليج العربي.

3.2- المزارعون أو الفلاحون

لا تزال هذه الفئة الإجتماعية-الإقتصادية من المسيحيين وغير المسيحيين، تتلقى الضربات الواحدة تلو الأخرى، منذ استيلاء الأنظمة ذات الطابع الإشتراكي على ملكياتها الزراعية الكبرى في ستينات القرن الماضي، والقضاء على ملكياتها المتوسطة والصغيرة الحجم، من جرّاء سياسات التسعير الخفيض للمنتوجات الزراعية، درءً للتضخم المالي الذي كانت تخشاه هذه الأنظمة.

واستمرت التضحية بالقطاع الزراعي في العديد من دول المنطقة حتى في زمن التحرير الإقتصادي القائم منذ ثمانينات القرن الماضي، لا سيما في لبنان حيث يملك المسيحيون منذ زمن بعيد أغلبية المساحات الزراعية، والذين لا يخشون سوى شر سياسات الدولة الإقتصادية المؤذية لهم، حتى منذ كان للمسيحيين كلمة في القرارات الإقتصادية العامة.

وهذا ما يفسّر بالدرجة الأولى النزف الديموغرافي للمزارعين والفلاحين المسيحيين في هذه المنطقة، علماً أنهم يشكلون الخزان البشري والعماد الديموغرافي لمسيحيي الشرق الأوسط، نظراً لمعدلات الخصوبةوالإنجاب عندهم التي هي الأعلى بين المسيحيين، وبالتالي، دفْعهم للتخلي عن الزراعة هو بمثابة انتحار ديموغرافي لمسيحيي هذه المنطقة.

4.2- فئة الشباب

يشكلون بالطبع المستقبل القريب لمسيحيي الشرق الأوسط.  ولكن لا يوجد إحصاءات خاصة بهم تتعلق بمعدلات تمدرسهم (Taux de scolarisation – Scolarisation rate) أو معدلات دخولهم الجامعة، أو معدلات البطالة عندهم الخ.، بحيث أن الإحصاءات المتوفرة تتعلق بالشباب في بلدانهم، ولم يكن لدينا خيار آخر سوى اسخدامها لإعطاء فكرة ولو تقريبية عن الوضع التربوي والإقتصادي والإجتماعي المحيط بهذا الشباب المسيحي.

بما يتعلق بمعدل بلوغ التعليم الثانوي عند هؤلاء الشباب، فيتراوح حسب بلدانهم بين 45 و 69% حسب إحصاءات اليونسكو، وهي معدلات نوعاً ما ضعيفة، إذا ما قيست بالدول المتطورة حيث هي حوالي 80%.  أما الذين يصلون الى الجامعة، فيشكلون حوالي 24%، وهي أيضاً نسبة ضعيفة، بحيث تبلغ 62.8% في فرنسا مثلاً (وزارة التعليم العالي والبحث والتجديد، فرنسا، 2019).

فهذه المعدلات الضعيفة قد تشكل عائقاً لحصول هؤلاء الشباب على فرص عمل، هذا بغضّ النظر عن نوعية التعليم المتدنية في العديد من جامعات الدول العربية، ونوع الإختصاص الذي يختاره الطلاب (أدبي، علمي، مهن حرة).

وما يعيق أيضاً حصول هؤلاء الشباب على فرص عمل، هي الإستثمارات غير الكافية في هذه الدول.  وهذا ما تعكسه معدلات النمو الإقتصادي الضعيفة في العديد من هذه البلدان، والتي هي أدنى من معدلات النمو السكاني فيها (الجدول 2)، علماً أن استيعاب البطالة يفترض بأن تكون معدلات النمو الإقتصادي أعلى من معدلات النمو السكاني.

المصادر : تم تركيب هذا الجدول بالاستناد الى المراجع الاتية :

·        FMI, Perspectives de l’économie mondiale, 202(معدلات النمو الاقتصادي).

·        OIT, Estimations modélisées du chômage des jeunes au Moyen-Orient et l’Afrique du Nord, 2021   (معدلات البطالة)

·        UN, Department of Economic and Social Affairs (2016)  (معدلات النمو السكاني)

·       تقارير رسمية محلية ودولية، وتقديرات خبراء (معدلات الفقر).

 

وهذا ما يفسّر معدلات البطالة السافرة العالية في الدول العربية، والتي تتراوح بين 10.7% في المغرب و 50% في سوريا، كما يبيّنه هذا الجدول.  والبطالة السافرة تعني الذين هم بعمر العمل (15-64) عاماً ولا عمل مأجور لهم، ولو ساعة عمل بالأسبوع.

أما معدلات البطالة عند الشباب، فهي مخيفة بحيث تتجاوز ال20% في 15 دولة عربية، كما نلاحظ في الجدول رقم 2.

وتنتج عن هذه المعدلات العالية للبطالة، معدلات عالية جداً للفقر تتراوح بين 12.7% في السعودية و 85% في اليمن، كما هو ظاهر في هذا الجدول.

بإختصار، كل هذه المؤشرات تجعل من هؤلاء الشباب مشاريع هجرة.  حبذا لو تستطيع دول الخليج العربي استيعابهم، ليبقوا في هذه المنطقة.

 

1-   شروط استمرارية المسيحيين في الشرق الأوسط

إن استمرارية المسيحيين في الشرق الأوسط ليست أكيدة، ولكنها ليست مستحيلة.

انها ليست أكيدة، نظراً لما رأيناه من مؤشرات ديموغرافية واجتماعية-اقتصادية تدعو حقيقة الى القلق.  صحيح أنه لا يزال هناك بعض النمو السكاني لهؤلاء المسيحيين كما دلّت الأرقام التي أتينا على عرضها، غير أنه من المحتمل جداً أن لا يستمر هذا النمو طويلاً، نظراً للهجرة الشبابية المسيحية الكثيفة التي نشهدها اليوم، والتي من شأنها أن تخفّض مستوى معدل الخصوبة عند مسيحيي الشرق الأوسط في العقدين المقبلين، الى ما دون معدل الإستبدال أو الإحلال الذي هو 2.1 ولد للزوجين، كما ذكرنا سابقاً.  وعندئذٍ يدخل مسيحيو هذه المنطقة في مرحلةٍ من التناقص السكاني المتراكم، الذي من المحتمل ان يحوّلهم في بداية القرن الثاني والعشرين، الى مجموعات صغيرة من العجزة حول أماكن عبادتهم.

إلا أنه بالمقابل، استمرارية الحضور المسيحي في هذه المنطقة وتناميه، ليست مستحيلة، شرط أن لا نبقى مكتوفي الأيدي حيال ذوبان هذا الحضور، بل سعي كنائسنا الى توفير شروط هذه الإستمرارية، في ظل هزالة السياسات العامة، اي  الإقتصادية والإجتماعية والصحية والتربوية لدولنا.

وهذه الشروط التي يمكن لكنائسنا العمل عليها، هي تنظيمية واجتماعية واقتصادية وسياسية.

 

1.3- الشروط التنظيمية

من أهم الإنجازات أو الشروط التي تحققت حتى الآن على الصعيد التنظيمي ، هو إنشاء مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي أنشىء في العام 1930، والذي يشكل اليوم إطاراً تشاركياً لكنائسنا، لتسعى من خلاله معالجة مشاكل مسيحيي هذه المنطقة، بالتكافل والتضامن.

غير أن هذا الشرط التنظيمي، من الضروري استتباعه بتحقيق شروط تنظيمية أخرى، سأتوقف عند اثنتين منها، نظراً لضيق الوقت.

-       الشرط الأول: هو المزيد من استعانة كنائسنا بعلمانيين لإدارة شؤونها، بحيث يترتب عليها في شرقنا مسؤوليات اجتماعية وتربوية وصحية واقتصادية ومالية وسياسية عديدة، يمكن إسنادها لعلمانيين إختصاصيين وذو خبرة طويلة في هذه الميادين، وهم كثر في كنائسنا، ولو كان بعضهم غير ملتزم دينياً كثيرا، شرط أن يكون له غيرة على كنيسته.

-       الشرط الثاني: هو إنشاء مرصد إلكتروني لمسيحيي الشرق الأوسط، يرصد أهم أخبارهم، وينشر أهم الأبحاث التي تناولتهم، ويسد الثغرات والنواقص البحثية في عدة ميادين لا تتوفر فيها حتى الآن معطيات علمية ودقيقة حول أوضاعهم الديموغرافية والإقتصادية والإجتماعية والتربوية والمهنية، مما يجعل من الصعب حالياً متابعة مشاكلهم، ووضع حلول ملائمة وناجعة لها.

 

2.3-  الشروط الإقتصادية

سأتوقف عند شرطين يمكن لكنائسنا المساهمة في تحقيقهما:

-       الشرط الأول: التركيز على إعداد رأسمال بشري مسيحي كفوء وماهر لأوسع شريحة ممكنة من المسيحيين، لأن هذا الرأسمال بالذات هو الذي شكل الرافعة الإقتصادية والإجتماعية الأساسية لمسيحيي الشرق طوال أكثر من قرن، كما سبق وذكرت.

غير أن هذا الإعداد لهكذا رأسمال هو مكلف جداً في العديد من مدارس وجامعات كنائسنا، حتى بات غير متوفر سوى لأبناء الأثرياء وبعض أولاد الطبقة الوسطى الذين يضطر أهلهم لبيع أملاك لهم، أو الهجرة لدفع أقساطهم المدرسية والجامعية.  وهذا ما يعطي انطباعاً بأن مؤسساتنا الدينية التربوية، كما الصحية وغيرها، أصبحت مؤسسات ثرية في خدمة الأثرياء، في حين أن رسالتها المسيحية تقتضي بأن تكون فقيرة في خدمة الفقراء.

وهكذا، أصبح من الضروري أن تسعى كنائسنا أن يكون التعليم الجيد حقاً أيضاً لأولاد طبقاتنا الوسطى والفقيرة.  وهناك عدة حلول لذلك، يمكن أن تكون بمتناول سلطاتنا الدينية.

-       الشرط الثاني: هو تحسين إدارة أوقاف وأملاك وسائر أموال كنائسنا، من خلال مجالس إدارة يشترك فيها علمانيون من ذوي الإختصاص والخبرة في استثمار الأراضي، والتوظيف المالي، وإدارة المؤسسات، من أجل تثميرها وتحقيق أكبر قدر ممكن من المردود بأقل قدر من الكلفة.  وهذا ما يعزز قدرة كنائسنا على الدعم الإقتصادي والإجتماعي لطبقاتنا الفقيرة، والمساهمة في تثبيتها في أرضها.

 

3.3- الشروط الإجتماعية

هناك شرط واحد يختصر معظم الشروط الإجتماعية، هو التضامن الإجتماعي.  وهذا التضامن المطلوب هو على نوعين:

-       تضامن إجتماعي داخل الكنائس أو الطوائف، بين أثرياء الطوائف وفقرائها، شرط أن تستخدم سلطاتنا الكنسية المَونة أو السطوة التي لها على أثرياء طوائفها لتحقيق هذا التضامن.

-       تضامن إجتماعي بين الكنائس، عندما الكنائس المقتدرة نوعاً ما، تساعدالكنائس غير المقتدرة، من خلال صندوق إجتماعي ينشأ في إطار مجلس كنائس الشرق الأوسط،. وعندما أيضاً الطوائف المقتدرة لا تحصر مساعداتها الإجتماعية بأبناء طوائفها، بل تجعلها تشمل جميع المسيحيين على اختلاف طوائفهم.  وخارج هذا النوع من التضامن الإجتماعي، عبثاً أن تخطو وحدة الكنائس أو وحدة المسيحيين، خطوة جدية واحدة الى الأمام.

 

4.3-  الشروط السياسية

إن الحضور المسيحي المستدام في هذا الشرق، مرتبط ارتباطا ً وثيقاً بإحلال الديموقراطية في بلدانه، والعدالة، ودولة القانون، والمساواة بين المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية وغير الدينية، والأمن، والحريات العامة، والعدالة الإجتماعية، مما يحفّز الإستثمار المولّد للنمو الإقتصادي وفرص العمل في هذه الدول.  وهذا ما يحتاجه المسيحيون للبقاء في أرضهم، والا سعوا اليه بالإتجاه نحو الغرب.

غير أن هذه الأمنية لا تزال بعيدة المنال في معظم بلداننا.  وهذا ما يجعل سلطاتنا الكنسية في مأزق ديني – سياسي.  فإن مسيحياً شهدت إحدى كنائسنا للحق، أي أخذت جانب الديموقراطية والعدالة، من شأنها أن تتعرّض وتعرّض رعاياها للخطر، سيما في البلدان التي ليس فيها للمسيحيين حيثية وطنية ديموغرافية وسياسية واقتصادية مهمة.  وأيضاً تتعرّض وتعرّض رعاياها للخطر، عندما نأخذ طرفاً، لا علاقة له بالشهادة للحق، في الصراع السياسي الداخلي الدائر في بلداننا الشرق أوسطية.

وفي حال لم تشهد إحدى كنائسنا للحق، صوناً لوجودها أو حفاظاً على سلامة رعاياها، فتتعرض للشك في روحانيتها، مما ينال من شرعيتها كسلطة دينية.

وبالتالي ، إن قررت إحدى كنائسنا الشهادة للحق بإتخاذها جانب الديموقراطية والعدالة، فيتوجب على جميع كنائس الشرق الأوسط التضامن معها، لكي لا تتعرض هي ورعاياها للخطر.

*************

بالنهاية، إن شروط استمراريتنا في هذا الشرق التي عرضتها بشكل مقتضب لضيق الوقت، يمكن ترجمتها بمشاريع على أرض الواقع، بعد دراستها في إطار مجلس كنائس الشرق الأوسط.  غير أن تحقيق هذه الشروط يتطلب تجدداً روحياً في كنائسنا.  ولي أملٌ بذلك.  فنحن أبناء الرجاء.  ولكن الرجاء لا يُعطى للمستسلمين لقدرهم، بل للساعين بحكمة للخروج من قدرهم.

 

بيبليوغرافيا

·       Balta, Paul, « L'exode des chrétiens d'Orient »in Confluences Méditerranée 2004/2 (N°49), pp. 161- 165.

·       Blanc, Pierre « Les Arabes chrétiens, miroirs des échecs politiques du monde arabe »**

·        2009/1 (N° 93), pp.9 – 21.

·       Fleyfel, Antoine,  Géopolitique des chrétiens d’Orient.  Défis et avenir des chrétiens arabes, l’Harmattan, 2013, pp.184-185.

·       FMI, Perspectives de l’économie mondiale, 2020.

·       Heyberger, Bernard, « Les chrétiens d’Orient entre le passé et l’avenir », in Les Cahiers de l'Orient.

·       Ignacio Fuente Cobo, “Christians of the Orient” (I): who are they?, where do they come from?, how many of them are there? In Analysis 18th March, 2015, Spanish Institute of Strategic Studies.

·       Lochon, Christian, « Chrétiens d’Orient » in Perspectives & Réflexions n° 1-2013.

·       Martiny,Didier, « La Fin des chrétiens d’Orient ? » [archive], documentaire, France, 2016,  ARTE France, in Hérodote 2016/1-2 (N° 160-161), pp. 239-258

·       OIT, Estimations modélisées du chômage des jeunes au Moyen-Orient et l’Afrique du Nord

·       UN, Department of Economic and Social Affairs (2016)

 

·       بيير تريستام، مسيحيو الشرق الأوسط: حقائق كل بلد https://eferrit.com/

·       سكان العالم العربي عام 2021 alamarabi.com

·       مايكل لاشيفيتا، احصائيات “جمعية الرعاية الكاثوليكية في الشرق الأدنى” (CNEWA) التابعة للكرسي الرسولي، جريدة “النهار”.

·       وكالة المخابرات المركزية،  سكان الدول العربية عام  2016 "The World Factbook"، cia.gov.

Previous
Previous

فيديو تقرير – أنشطة اليوم الأخير من الجمعيّة العامة الثانية عشرة لمجلس كنائس الشرق الأوسط

Next
Next

أنا هو لا تخافوا