تأملات في عيد الكرسي الأنطاكي
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
إنّه عيد هامتي الرُسل، القديسين بطرس وبولس، مؤسّسي الكرسي الأنطاكي.
اليوم، بعد الفيّتين ونيف، نقف وقفة تأمّل في مسار الإيمان المسيحي والكنيسة التي تجسّده، والتي بناها السيّد على الصخر.
هذه "الحفنة" من الصيّادين، المفعمة بالإيمان بمعتقدها، استطاعت أن تلف العالم وتضعه ضمن كيان محبتها.
قلّة قليلة، خميرة الإيمان والصلاح، استطاعت أن تستحوذ على الجنس البشري وتجلبه إلى إيمانها.
لا الأهوال أخافتها، ولا الشدائد ردعتها، لأنّها تحمل في عمق أعماق نفسها إيمان السيّد.
من أنطاكية انطلق الصيّادون إلى العالم، إلى المجهول، حاملين دمهم على أكفهم، غير آبهين بالصعاب، ووجهتهم واحدة، واضحة المعالم: الإنسان!
كم أنت جبار أيّها السيّد المتجسّد، في غيابك كما في حضورك، تعطي زخم الإيمان ليشمل كلّ بني البشر!
كم أنتم عظماء أيّها الرُسل، يا من حملتم الإيمان وزرعتموه في العالم، فأزهر حضارة ورقيًّا وثقافة!
كم بررتم بالسيّد وجعلتم كل أعمالكم أصلب من الصخر!
لا الضواري أخافتكم ولا الاضطهاد زعزع إيمانكم ولا شيء على وجه البسيطة حرفكم عن مساركم.
كم نشعر نحوكم بتقدير وامتنان عظيمين يا من أورثتمونا أنطاكية!
منكم أولًا، ثم من أجدادنا، من جيل إلى جيل، بقيت أنطاكية حتى وصلت اإلينا اليوم، كرمة باسقة وارفة الظلال كثيرة الثمار.
كم أعطت أنطاكية للإنسانيّة من فكر وعلم وثقافة عبر هاتين الألفيّتين!
أيّتها الأم المباركة، الحاضنة أبناءها، جميع أبنائها، المُحبّة، المُتسامحة والتي يلف دفئها العالم.
كم من تنين حاول أن يقضي عليكِ، وكم من خائن حاول أن يطعنك، وأنت بجلالك وبهائك عصيّة على خطيئة الحقد والكراهية.
إنّك تحملين جراح السيّد يُجلد في حضرة المنافقين، يسير طريق الجلجلة، يُصلب ويطعن فيسامح.
أنت على صورة قيامة السيّد، تدحرجين كلّ الصخور التي يحاولون أن يطمروك بها.
كما السيّد، أنت قويّة في تسامحك، صلبة في محبتك، لا سبيل للنيل من عظمتك.
أنطاكية، الرسولين الذين أسّساك خالدين، كما سائر الرُسل والأبرار والشهداء.
أنطاكية، أنت في أيدٍ أمينة، تقودك في حقول مزروعة شوكًا وحسكًا، تسير بك بحكمة ومحبة، وكلّما وصلت بك إلى قمّة، تراءت لها قمم.
أنطاكية، بك تعمّدنا باسم الثالوث الأقدس ودعينا مسيحيين أوّلًا، وسنبقى كذلك طالما بقي الكون كونًا والحياة حياة.