إيليا الغيور وأزمنة السوء
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
ما أشبه الليلة بالبارحة، وكأنّه لم تمضي أكثر من ألفيّتين بين زمن إيليا الغيور وحياتنا اليوم.
يمثل مار الياس الحيّ، كما تسمّيه العامة في بلادنا، نموذجًا فريدًا من القدّيسين ويحتلّ في الذاكرة الشعبيّة مكانة مميّزة إذ لا يخلو مكان في منطقتنا من دير أو كنيسة أو مزار على اسمه.
سيرته غنيّة متنوّعة، مزدحمة بالأحداث، نجدها في كتب اللاهوت كما في كتب التعليم الديني في المدارس ونسمعها في الحكايا الشعبية أيضًا.
عيده مميّز وهو أوّل أعياد فصل الصيف ويحتفل به الشعب، على مختلف أديانه، بشكل مميّز ويترافق عيده بتقاليد شعبيّة تتنوّع حسب المنطقة أو المحتفلين.
مار الياس أتى في زمن كثيف الأحداث، غزير الخطايا، مليء بالموبقات، فلم يلوذ بالصمت ولا استكان، بل حمل سيف الحق وطفق يطارد الباطل.
من هنا التكريم الشعبي الذي يحظى به؛ الناس لا تستسيغ الباطل وتكرّم كلّ من يحاربه، خصوصًا إذا تعرّض محارب الباطل لشتّى صروف العذاب والاضطهاد والعدائيّة.
أن يعيش هذا المدافع عن الحقّ أعوامًا عديدة في البريّة، وأن يلبس رداءً من الوبر وزنارًا من الجلد وأن يُحرم من القوت والماء، فهذا دليل مشرّف وقاطع على انتمائه اللامحدود للباري وغيرته اللامحدودة للرّب إله الصبؤوت.
أن يُستهدف للقتل فيضحي شريدًا في البراري دون تراجع عن إيمانه، فهذا من علامات الفداء.
إنّ الشرّ الذي حاربه إيليّا الغيور بعمق إيمانه ما زال حاضرًا بيننا، يجوب يوميّاتنا وحياتنا الإجتماعيّة والإقتصاديّة والسياسيّة وحتى العائليّة، لذلك وجب علينا أن نحسن التمييز لئلا نقع في أتون الشرّ. كذلك علينا أن نتسلّح بالشجاعة من أجل تسمية الأشياء بأسمائها، دون وجل أو خشية لومة لائم.
هذه هي العبرة التي لا بدّ لنا من أن نستخلصها من سيرة إيليّا الغيور.
لقد تعدّدت الألهة من جديد في زمننا الحالي، دون أن يتجرّأ عابدوها أن يشيدوا لها التماثيل. من عبادة الذات – الأنا اللاغية للغير، إلى عبادة المال، إلى عبادة السلطة، إلى عبادة المتزعم، إلى عبادة التكنولوجيا، إلى عبادة التقاليد البالية، تحتشد "الآلهة" في حياة الإنسان الحديث الذي، بتضييعه طريق الخلاص، ظنّ أنّه قد ربح العالم ومن فرط عبوديته لم يوقن أنّه أضاع نفسه.
نحن، المؤمنون بإنسان أفضل، يحمل القيم الإلهيّة والقيم الإجتماعيّة التي أرستها وبها نظّمت المجتمع الإنساني، نحن في حرب ضروس مع من وما يريد أن ينزل بنا إلى غياهب ظلمة الكون. لقد نسي جزء كبير من البشريّة الخلاص وتمادى في غيّه حتى لأضحى المجتمع الحديث أشبه بغابة بدائية يفترس فيها القوي الضعيف ولا يرأف الناس ببعضهم البعض...ما عدا قلّة قليلة ما زالت في كنف إيمان الخلاص، هي النخبة المعاكسة، خميرة الصلاح.
حزين هو إنسان اليوم، يمتلك كلّ شيء ويفقد السعادة وراحة النفس. تتصاعد الحاجة يومًا بعد يوم إلى شتّى أشكال العلاجات الطبيّة والنفسيّة وتزداد دُور إيواء العجزة والأيتام وأبناء الأسر المفكّكة والمرضى النفسيّين وغيرهم من أشكال العجز الإجتماعي.
"هذا العجز موجود لأنّ محبّتنا عاجزة" قالها سيادة المتروبوليت الياس عودة، راعي أبرشية بيروت خلال حملة إنسانيّة عام 1982. نعم محبّتنا ما زالت عاجزة لا بلّ تزداد عجزًا والآتي أعظم.
في عظته في عيد النبي إيليّا، يورد لنا الراعي الغائب، الدائم الحضور بيننا، المتروبوليت بولس يازجي، تحاليل ومقارنات تجعل فهمنا لرسالة النبي إيليّا الغيور يتحلّى بالواقعيّة وتجعل من هذا الفهم تحدّيًا لنا في حياتنا اليوميّة، في علاقاتنا مع بعضنا البعض وفي خياراتنا.
يقول المتروبوليت بولس، واصفًا النفس الإنسانيّة المتقلّبة التي تميل إلى جمع التناقضات توخيًّا لخيارات سهلة في الحياة: "نحن في عالم ممزوج فيه حَبُّ القمح مع الزؤان، والحقّ بالباطل، وغالبًا ما نريد أن نصالح الأوّل بالثاني وأن نجمع بين النقيضين. لكنّ روح إيليّا سيف يقطع بين المتناقضات. أمّا نحن فنتأرجح بين روح إيليّا وبين تيارات العالم، بين الحقّ وبين الكذب، بين الجوهر والظاهر."
بعدها، يتطرّق المتروبوليت المغيّب إلى الخنوع الإنساني إمّا بسبب الجُبن أم بسبب المصالح أم خوفًا من التضحية فيؤكّد أن "ليست لدينا الجرأة أن نقول للباطل إنّه باطل، حين هذا الأخير يملك بعض السلطة علينا، سلطة ربّما من الرغبات أو السلطان أو الأعراف الإجتماعيّة، إلخ… لأنّ هذه المواجهة تحتاج لروح لا يصمت ولجرأة تقبل أن تتكلّف ثمنًا مهما كان باهظًا. فمعيارها ليس الإنتصار ولا الربح ولا المراكز، وإنّما الحقيقة والحقيقة فقط، لأنّها اللؤلؤة الثمينة التي وجدناها فبعنا كلّ شيء لنا واشتريناها."
ودرئًا لسوء الفهم، يتطرّق سيادته إلى تحديد مفهوم النبوءة قاطعًا الطريق على مستغلّي النفوس الضعيفة أو قليلي الإيمان فيؤكّد أنّ "النبيّ ليس "العرّاف" الذي يقرأ المستقبلات، هذه مهنة السحرة الذين يقرؤون الفنجان ويشبكون الخزعبلات من مسارات النجوم وشتّى ألوان السحر والشعوذة." بالنسبة إليه "النبيّ المملوء من روح الله يفهم الحاضر من إيمانه بالمستقبل. فروح الربّ الساكن والمتحرّك فينا يجعلنا لا نقبل الحاضر كما هو. وإنّما فقط كأداة لتحقيق المستقبل الذي نراه ونرغبه ونسعى إليه. وما هو هذا المستقبل إلا المشيئة الإلهيّة الصالحة للإنسان".
في مكان آخر من العظة نفسها يتطرّق المتروبوليت الدائم الحضور في ترانيمه وعظاته وكتاباته إلى سِمة أساسيّة من سِمات ثقافتنا المريضة والتي تحتاج أن تخضع إلى تغيير جذري إذ أن دون ذلك هلاك ونحن في خضمّه. يقول: "من هذا “المنظور النبويّ” للزمن، الحاضر والمستقبل، يرى المؤمن الفساد والعتاقة التي يعتاد الناس عليها أحيانًا، وذلك في علاقتهم مع الله والآخر. لذلك يتعرّض هذا الروح، روح الحقّ، إلى ألوان الرياء في الإيمان، ولا يقبل الإنفصام بين الحياة والمبادئ، بين الأعمال والأقوال، بين ما نعرف وما نسلك! وتجعل روح الله حين تملأ القلب، الإنسان كيانًا واحدًا لا انفصام فيه، فيؤمن، وإيمانه هذا يصيّره "ما يؤمن". هكذا يصير الإيمان الرأس والأعمال جسمًا له."
يظهر لنا جليًّا في هذه الفقرة كيف يرى المؤمن عبوديّة العصر الحديث وما أكثر الكتابات السوسيولوجيّة والفلسفيّة حول هذا الأمر. الفساد، الرياء، الإنفصام بين الحياة والمبادئ، التباين بين ما نقول وما نفعل، كلّ تلك أشكال نفاق مرضيّ نعيشها في حياتنا اليوميّة وتجعل من علاقتنا مع الخالق ومع المخلوق محفوفة بشتى أشكال الأمراض السلوكيّة.
وفي صلاة مديح والدة الإله في كنيسة دير سيدة البلمند البطريركي عام 2015، يشدّد صاحب الغبطة البطريرك يوحنا العاشر على مفهوم الجهاد الروحي حيث اعتبر أنّ أولى ثماره تكمن في "أن يعود الإنسان إلى نفسه، ويصبح سيّدًا عليها كي لا تسود عليه الخطيئة. لذلك عندما نتعمّد، نتحرّر من الخطيئة. وهذا التحرّر يكسبه الإنسان بإيمانه بالسيد المسيح، فيتحول الى سيد على نفسه ولا يكون عبدًا".
هي المسيحيّة حرب على العبوديّة، لا بلّ على "العبوديات" التي وضعت حضارة المجتمع الحديث الإنسان فيها فأصبح أسيرها بدل أن يسخرّها لخدمته في توجه إنساني جامع.
في نفس العظة، يؤكد صاحب الغبطة أنّ "الرّب يسوع أحبّنا جدًا، لذلك تجسّد من أجل خلاصنا، من أجل انتشالنا من العبوديّة، لأنّه يريدنا أحرارًا وأسيادًا لا عبيدًا وماجورين. والإنسان من جهله يقع في الخطيئة ويسقط في أهوائه فتستملكه، ويصبح مشدودًا وراء الأفكار التي تمليها عليه الخطيئة".
وأشار صاحب الغبطة إلى ضرورة "السعي إلى التمسّك بكلّ ما هو حسن وبكل فضيلة صالحة وبأعمال الإحسان والبرّ معتبرًا أنّ "إحدى ثمار هذا السعي أن نعود احرارًا واسيادًا" مشددًا أن تكون "القيامة في داخلنا، أي أن نكون أسيادًا على كلّ تصرفاتنا، فنكون حينها أبناء القيامة وليس أبناء السقوط".
هي رسالة نوجهها إلى مستغلّي الشعوب ومضلّلي الجماعات والمتلاعبين بمصائر الأمم ومكدّسي الثروات ومحتكري المواد الحيويّة ومهدّدي السلم العالمي وناصبي الفخاخ وقاتلي الروح قبل قتل الأجساد.
لقد خيّركم السيّد فاختاروا!