الإعلان العالمي لحقوق الانسان... وكرامته
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
يشكّل كلّ من التوقيت والمحتوى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان علامات فارقة في تاريخ البشريّة، إذ يأتي غداة حرب شعواء دمّرت قسمًا هامًا من الحضارة الإنسانيّة واعتُمدت خلالها أساليب قتل وفتك تعود إلى قرون خلت. لقد وجدت الإنسانيّة نفسها في ضرورة تحصين نفسها من ممارسات إجتماعيّة وسياسيّة وحقوقيّة واقتصاديّة قد تعيدها إلى نقطة الصفر، حيث اللارجوع، سيرًا نحو الفناء.
نصُّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كاملٌ شامل، كافٍ ووافٍ، يغطّي كلّ نواحي الحياة، على مختلف الصعد، ويذكّر الناس بما يجوز ولا يجوز أن يُرتكب بحقّهم.
يتكلّم الإعلان في الديباجة عن "اعتراف بالكرامة المتأصّلة في جميع أعضاء الأسرة البشريّة" ويشدّد على "حقوقهم المتساويّة الثابتة" ويعتبر الكرامة والحقوق أنّها "أساس الحريّة والعدل والسلام في العالم".
ويضيف الإعلان أنّ "تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها" هما المدخل "إلى أعمال همجيّة أذت الضمير الإنساني". ثم يؤكّد أنّ غاية الإنسانيّة هي بناء عالم تسوده الحريّات الفرديّة – والجماعيّة طبعًا – ويشمل ذلك حريّة التعبير عن الرأي وحريّة اعتناق العقائد، ولكن دون أن يتغاضى الإعلان عن ضرورة تأمين الأمان للناس والإكتفاء المادي.
واعَتَبر الإعلان أن للقانون دور أساسيّ في "حماية حقوق الإنسان"، تفاديًا للظلم والإستبداد الذين قد يقودان إلى قلاقل واضطرابات أو انتفاضات وثورات.
وتَعتبر الديباجة أنّ البشريّة قد أكدت التزامها بمسلّمات الإعلان، "بحقوق الإنسان الأساسيّة وبكرامة الفرد وقَدره" كما بالمساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات "وحزمت أمرها على أن تدفع بالرقيّ الإجتماعي قدمًا" وصولًا إلى رفع مستوى الحياة في مناخ عام من الحريّة.
وقبل الشروع بعرض أسس الإعلان، يؤكّد النص أنّ الشعوب تدرك تمامًا ضرورة الإيفاء بهذا التعهّد لإن الإعلان يشكّل "المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم" التي يجب أن تضعه نصب أعينها. ويلفت النصّ إلى أن التعليم والتربية هما الوسيلة الفضلى التي تؤدي "إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريّات". كذلك يحثّ النصّ الدول على "اتخاذ إجراءات مطردة" لضمان الإعتراف بهذه الحقوق والحريّات.
من البديع حقًا أن نرى التلازم في المقدمة بين الحقوق والكرامة، كما نرى التركيز على القضاء على الجهل عبر التعليم وعلى محاربة الفقر، وسائل إذلال واستعباد الشعوب والأفراد.
من جهة أخرى، يوقن قارئ مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، السوية القيميّة والمناقبيّة والإنسانيّة الرفيعة لنصٍّ كُتب قبل ثلاثة أرباع القرن، حيث كان التمييز العنصري وسوء المعاملة بين الناس، وحتى العبوديّة، لا تزال ممارسات رائجة، والبعض منها لم ننته منه بعد. منذ سنوات قليلة عشنا تجارب في المشرق الأنطاكي عادت بنا إلى زمن السبي وتجارة الرقيق في وقت لم نحلم أن هكذا ممارسات ما زالت واردة.
مقابل ذلك، والفضل يعود للتربية والتعليم والوعي وتطبيق القوانين، أصبحنا نجد أنّ النسبة الأكبر من البشريّة تَعتبر القواعد المدرجة في الإعلان بديهيات لا بدّ من تأمينها وجعلها قانون التعامل بين البشر.
هو دائمًا نفسه، السِباقُ بين الخير والشرّ، قوى الخير تتصاعد وتزداد تأثيرًا، ولكن للباطل جولة أحيانًا، لا بل جولات.
من هنا ضرورة التحصين، تحصين العقول والنفوس عبر ترسيخ القيم التي تُؤَمِّن مستقبلًا أفضل للبشريّة.
من هنا ضرورة تعزيز ثقافة حقوق الإنسان على مستوى البشريّة، وجعلها دليل حياة على كلّ الصعد وتحويل مقولاتها إلى دين للإنسانيّة.
كلّ ذلك من أجل تفادي السقطات التي يمكن أن تقع فيها البشريّة والتي يمكن أن تقودها إلى الهاوية، لأنّ قوى الشرّ والظلامية والرجعية تحاول دومًا أن تذرّ قرنها فتهدّد إنجازات الإنسان. إنّها تهدّم بلحظة ما يكون هذا الإنسان قد بناه في عصور فتعيده إلى المربّع الأول.
تُحسِن المنظمة الأمميّة أن تقوم بدفع جديد لحقوق الإنسان، وأن تطلق حملة "الكرامة والحريّة والعدالة للجميع"، وأن تدعو العالم لكيّ يهب ويدافع عن حقوق الإنسان.
لا بدّ لنا من أن نتوقف هنا أمام مقولة الكرامة التي وردت في تسمية الحملة، كما وردت مرات عدّة في الإعلان نفسه.
لقد ركّزت مقدّمة الإعلان على الكرامة واعتبرتها متلازمة مع الحقوق، ونحن في مجلس كنائس الشرق الأوسط نذهب في نفس الإتجاه.
لقد اتسمت مشاريعنا الإنسانيّة، منذ حرب فلسطين في الأربعينات، إلى الحروب في العراق والشام في العقد المنصرم، مرورًا بحرب لبنان في السبعينات والثمانينات، بوضع الكرامة الإنسانيّة في مصاف الحياة، وتعاملنا مع كافة الأحداث بمنطق أنّ الحياة كلّها وقفة عزّ فقط.
لقد درّبنا فرقنا العاملة، في مختلف كيانات المشرق الأنطاكي المنكوبة، على التعامل مع المشرّدين والمنكوبين والمعوزين بكرامة المحبة التي أوصانا بها السيّد المتجسّد، حيث علمنا أنّ نحسن حتى للمسيئين إلينا، كما علمنا أنّ التوق نحو العدالة ومحاولة إرسائها هي القاعدة السليمة للعلاقات الإجتماعيّة ولمجتمع متصالح مع نفسه، كما منع الرجم عن التي رجمها مجتمعها بالمهانة قبل أن يشرع برجمها بالحجارة. في نفس السياق، ورد على لسان الصحابي الحكيم أن لا يحق لأحد استعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، وهو بذلك يتبع قدوة الرسول العربي الذي اعتبر أنّ "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي،... إلا بالتقوى".
أكتفي بهذه الملامح التي تفيدنا كم أنّ حقوق الإنسان تجد جزءًا من جذورها في معتقداتنا الدينيّة، ولا أظنّ أنّ أحدًا قد يميل إلى اعتقاد عكس ذلك.
لقد تعامل المجلس مع حقوق الإنسان لفترة طويلة خلال الثمانينات والتسعينات، وله باع طويل في هذا المضمار، أمّا اليوم فإن تركيزنا هو على مفهوم الكرامة الإنسانيّة.
فبالإضافة إلى شعار "نخدم بكرامة" المعتمد في دائرة الإغاثة والخدمة الإجتماعيّة، وعنوانها يفيد عن نشاطاتها، والذي يتجسّد في الخدمات الجُلّى التي تقدّمها هذه الدائرة المترامية الأطراف، في المشرق الأنطاكي، حيث مرّ البرابرة الجدد أعداء الإنسان وحقوقه، تقوم دائرة اللاهوت والعلاقات المسكونيّة بتدريب مدرّبين مهمتهم مساعدة الناس على الخروج من الأزمات النفسيّة التي مرّوا بها خلال جولات عنف تعرّضت لها مناطق سكنهم. إنّ لهذا البرنامج فعله الكبير في إعادة تأهيل الكرامة الإنسانيّة وصولًا إلى الحقوق الكاملة للإنسان. كما تُحَضِر هذه الدائرة برامج تنموية إضافية من أجل العناية بالناس ومساعدتهم على الخروج من الأزمات التي رمتهم بها الأحداث الجسام التي عصفت بالمنطقة خلال العقد الماضي.
في نفس السياق، رأى مجلس كنائس الشرق الأوسط ألا يتعامل مع مسألة الكرامة الإنسانيّة فقط عبر برامجه، بل أن يرسي لها برنامجًا متخصّصًا، في منطقة قاد الجوع والتشرّد جزءًا كبيرًا من أهلها إلى فقدان معنى للكرامة الإنسانيّة. لذلك شمل إطار عملنا الاستراتيجي للأربع سنوات، الذي بلورناه سنة 2021، تَوَجُه إعادة تكوين الرأسمال الإجتماعي وإعادة تأهيل الكرامة الإنسانيّة وبناء منظومة القيم التي تضرّرت بشكل كبير من جراء التشرّد والبؤس، وكلّنا يعلم كم أنّ الجوع كافر.
هذا المشروع، الذي سمّيناه "كرامة الإنسان - الإستكشاف والترميم - منظور شرق أوسطي" يتوخّى أهدافًا ثلاثة: الأوّل، زيادة الوعي وتعميم مفهوم الكرامة في الخطاب اليومي، الثاني، إجراء بحث وتحليل لحالة كرامة الإنسان في أطر إجتماعيّة محدّدة، والثالث بناء مؤشّر كرامة الإنسان من أجل تقييم وضع الكرامة في منطقتنا كمقدّمة لتدخلات مستقبليّة، مبنيّة على نتائج البحث والتحليل الواردين أعلاه.
أمّا حصيلة هذا المشروع فسوف تكون تنمية وعي طويل الأمد، وتعميم مفهوم "الكرامة"، وإنشاء شبكات تواصل وتفاعل على مستوى المجتمعات والمنظمات والجمعيات والجمهور العام، إضافة إلى تغيير طريقة تفكير الناس وتصرّفهم لتحقيق زيادة في العدالة الإجتماعية والمساواة، وتمكين الشباب من الدفاع عن حقوقهم وحقوق الأخرين والتنديد بالظلم.
على صعيد آخر سوف يؤدي تنفيذ هذا المشروع الى تحديد وتصنيف الإنتهاكات بحق كرامة الإنسان والمجتمع، والإرشاد إلى وسائل التغلّب على الصعوبات في استعادة الكرامة الإنسانيّة. كما نتوخى رفد صانعي السياسات العامة بالوسائل العلمية للعمل على استعادة كرامة الإنسان وحمايتها.
في سياق متصل، تمّ تصميم مجموعة أدوات ومؤشّرات محدّدة لقياس الوعي واستدامة الكرامة الإنسانيّة في الشرق الأوسط.
أمّا من الناحية التطبيقية، فإنّ تنفيذ المشروع سوف يكون بواسطة ندوات وحلقات دراسيّة وحملات إعلاميّة توعوية ومحاضرات ومناظرات وطاولات مستديرة، إضافة إلى الإستطلاعات الميدانيّة، وسوف يكون ذلك عبر هيئات المجتمع المدني والأهلي ومؤسّسات الكنائس الأعضاء وسائر الهيئات الدينيّة، والمؤسّسات الحكوميّة والتربويّة. إضافة إلى ذلك، فإنّ باحثين وأساتذة جامعيين سوف يكونون شركاء في هذا المشروع، وقد اشترك العديد منهم في الندوات التمهيديّة التي عملناها حتى اليوم.
لقد شملت هذه الندوات الشهرية، وهي خمسة لتاريخه، مواضيع تتعلّق بمشاكل اجتماعيّة مختلفة من منظور الكرامة الإنسانيّة. الندوة الأولى كانت عن وضع الفلسطينيين، والثانية كانت حول الفقر والبطالة، والثالثة حول المرأة، والرابعة حول المسنين، والخامسة حول ذوي الحاجات الخاصة. أمّا السادسة والتي نحن بصدد التحضير لها، فإنّها سوف تكون حول الكرامة الإنسانيّة للسجين.
الجدير ذكره في هذا السياق أنّ هذه الندوات قد نُفّذت جميعها بمنطق إقليمي شرق أوسطي وشملت مشاركين، محاضرة وحضورًا، من مختلف دول المنطقة ومن مختلف الخلفيّات الدينيّة أو الإثنيّة، وهذه من ثوابت سياسات عمل المجلس منذ تأسيسه.
صحيح أنّ بقعة زيت الرقيّ واحترام حقوق وكرامة الإنسان تتمدّد، وتشمل شرائح إجتماعيّة متصاعدة، وصحيح أنّ الكثير من أهداف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أصبحت من مسلّمات الإنسانيّة ومن بديهيات الحياة، ولكن خطر الإنتكاسات وارد في كلّ زمان ومكان حيث من الممكن أن يسيطر الجنون البشري ويطيح بكلّ المنجزات. لذلك لا بدّ من البقاء على الزخم (Momentum) في بثّ القيم التي ينضح بها الإعلان، والتأكّد أنّه وصل لأكبر عدد من الناس في أكبر عدد من المجتمعات.
إن التحصين الثقافي-المعرفي يشكل الوسيلة الفضلى لرفع المناعة الإنسانيّة ضد الرجعة.
إنّنا نحتاج لثقافة حقوق الإنسان لكي نتأكد أن البشريّة قد غادرت الغابة نحو المجتمع إلى غير رجعة، ولكي نمنع استشراء الداروينية الإجتماعيّة حيث يفتك القويّ بالضعيف، فيحصل كل إنسان على حقوقه، وكرامته تاج هذه الحقوق.
نحتاج لثقافة حقوق الإنسان لكيّ لا يكون "سارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ، وسارقُ الحقل يُدعى الباسلُ الخطرُ" كما ورد في قصيدة المواكب لجبران خليل جبران.
مع جبران أيضًا أختم كلمتي عندما قال "يقولون لي إذا رأيت عبدًا نائمًا لا توقظه لكيّ لا يحلم بالحريّة، وأنا أقول لهم إذا رأيت عبدًا نائمًا أيقظته وحدثته عن الحريّة".