ارض الشهداء والقديسين
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
منذ ان جُلد السيد وحمل صليبه نازفا على طريق الجلجلة، حيث سمّر على الخشبة التي حملها، وطَعنه بالحربة، وتسليمه الروح مسامحا قتلته، ثم قيامته، وهذه الأرض ترتوي بالدماء.
منذ ان رُجم القديس اسطفان في العام السادس والثلاثين من زمن السيد، على يد من لا يتحمل انسانا يختلف عنه بالقيم والمعتقد، فكان فاتحة شهداء المسيحية، ومنذ ان لاقت القديسة تقلا وجه ربها على يد مضللين قتلة، مرورا بشهداء المسيحية الذين قضوا بأساليب وحشيتها تتخطى الخيال، وصولا الى شهداء مجازر القرن العشرين، من ارمن وسريان واناضوليين، مرورا بشهداء جبل لبنان خلال المجاعة الكبرى، يضاف إليهم شهداء النكبة في فلسطين، وصولا الى مجازر الأرمن في أرتساخ اليوم، وهذه الأرض ما زالت ترتوي بالدماء.
عندنا تجسد السيد ونشر ايمانه وعلم قيمه للناس، واعطاهم القدوة في السلوك الاجتماعي الإنساني السوي.
من عندنا انطلقت القوافل البحرية تمخر عباب البحر، والقوافل البرية، تشق طريقها الوعر، ناشرة بشارة الخلاص والانسان الجديد في العالم.
عندنا قتل الخنزير البري آدون، كما تقول الأسطورة، وسقى ارض بلاد جبيل في لبنان بدمائه، فأزهرت شقائق نعمان بعد ثلاثة أيام، مؤذنة بالقيامة والتوق نحو الحياة الأبدية.
عندنا ولدت اسطورة طائر الفينيق، او العنقاء، هذا الذي يستحيل رمادا ثم يبعث من رماده من جديد، وكأنني بكل هذه الاساطير، من انتاج العقل الجماعي القلق، تنبينا بمجيء سيد الحياة، الذي لا يفنى له ملك ولا تزول له كلمة.
عندنا عاند الشعب المؤمن الفاتحين والغزاة، وصمد في وجههم، ولو اضطره ذلك الى المكوث مئات الأعوام في الأماكن الموحشة التي حولتها ارادته الى حضارة، مثل منطقة حكاري في أعالي جبال طوروس او وادي قنوبين في شمال لبنان.
من عندنا خرج نساك وقديسون ومعلمون، زرعوا مشرقنا الانطاكي ووادي النيل الحبيب، محبة وسلاما، وعلموها للعالم.
الى ارض النيل حجت العائلة المقدسة واختبأت هروبا من طاغوت لا يرتوي الا بدماء الأطفال كان جاثما على صدور شعب لا حول له ولا قدرة على المقاومة.
هذه الأرض المقدسة ما زالت حتى اليوم تنتج قديسين يشكلون منارة للناس والعالم في سيرتهم ومسارهم.
ارضنا مخضبة بالدماء، تاريخنا يحمل لون الدماء، وشعبنا لا يبخل بالدماء عندما يحين اجل بذلها صيانة لكرامة وتمسكا بمعتقد وحفظا لوطن.
كم من تنين اتى يجوب شواطئنا، وكم من جاورجيوس الخضر دحرها.
هذا قدرنا، ان نحارب الوحشية بالمحبة، بالكلمة، بالقدوة وبالموعظة الحسنة.
منذ أيام كرست كنيسة انطاكية الارثوذكسية القديسين الاب نقولا خشه وابنه الاب حبيب خشه، الدمشقيين، الذين قضيا بالعنف. الأب كاهن دافع عن شعبه في مرسين، والابن كاهن ذهب ضحية شذاذ آفاق جهلة. كلاهما ذهبا ضحية ايمانهما ومعتقدهما على يد قساة لا يمتون الى بني الانسان بِصِلة، فاستحقا اكليل الشهادة.
من جهة أخرى، تستعد الكنيسة السريانية المارونية لإعلان قداسة البطريرك اسطفان الدويهي، العلامة والمرجع الكنسي الذي عز نظيره، وإعلان القداسة للبطريرك الدويهي يأتي ضمن مسار مستمر من قديسين يأخذون مكانهم في الضمير الجماعي للمسيحية المشرقية.
وقافلة الشهداء والقديسين لن تنتهي، سجلها مفتوح من الازل والى الابد.
في هذه السياق، ومنذ حوالي أسبوعين، وفي ارض الرب، فلسطين، في غزة بالتحديد، تتعرض فئة مستضعفة الى حرب ضروس تصل الى حدود الإبادة، اذ قد قضى حتى اليوم أكثر من الفي طفل في الحرب التي تدور رحاها في الأراضي المقدسة. هذه الحرب لم ترحم المدنيين، خصوصاً الأطفال، من عنف الكبار.
هؤلاء الأطفال هم أيضا في عداد الشهداء. هم شهداء العنصرية والحقد والبغضاء واحتقار الانسان، والحسابات السياسية، ومصالح شركات النفط والسلاح. هم شهداء زمن لم يعد فيه للإنسان اية قيمة مقارنة بالمال والسلطة.
الى كم من الشهداء والقديسين يحتاج هذا الزمن لكي يصطلح، ام ان الأوان قد فات؟