العمل المسيحي في رعاية الخلق
ألقى الامين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس هذه الكلمة في خدمة الصلاة المسكونيّة الّتي أُقيمت بدعوة من مجلس الكنائس العالمي ومجلس كنائس الشرق الأوسط، يوم السبت 2 كانون الأوّل/ ديسمبر 2023، في كنيسة المسيح الأنجليكانيّة في منطقة جبل علي - دبي. وذلك بالتوازي مع فعاليّات مؤتمر الأطراف COP28 الّتي تعقده الأمم المتّحدة في دبي.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
عندما ننظر الى عمق توغل التلوث وتدميره للخليقة في مجتمعاتنا الحديثة نكاد ان نصاب بالإحباط!
عندما ننظر الى حجم الدمار الذي الحقناه بالبيئة يكاد ان يجتاحنا اليأس!
عندما ننظر الى سطوة ملوثي البيئة وقدرتهم على التأثير على القرارات الكبرى نكاد ان نصاب بالاستسلام!
ولكن عندما ننظر الى ما هو مطلوب منا لحماية هبة الخالق، يأخذنا التحدي ونشعر بعظمة المهمة تجاه من كلفنا بها وهو الطريق والحق والحياة!
البيئة، تلك العطية الأولية التي ابتدعها الخالق وخلقنا ضمنها، وسلمنا إياها كوديعة نحافظ عليها ونُجَوّدُها من اجل ان تكون لنا حياة أفضل، ماذا فعلنا بها؟
من اين تريدون ان نبدأ وأين تريدون ان ننتهي؟
منذ الثورة الصناعية ويد المخلوق تنهش جسد الخليقة، مضيفة الى التلوث الطبيعي المحدود التلوث الذي هو من صنع الانسان الذي لا حدود له.
ما وضعه الخالق في عهدتنا ليس ارضا او صخرا او ماء او هواء، نسلعها ونلوثها حسب مصالحنا واهمالنا واهوائنا، بل عناصر حياة المطلوب منها ان نصونها ونحفظها. انها رمز محبة الخالق لنا وارادته ان نحيا ضمنها وبها، لا ان ندمرها تاركين للأجيال القادمة مكب نفايات بحجم الكرة الأرضية.
عن ماذا اخاطبكم، أعن الاحتباس الحراري، او عن تراجع طبقة الأوزون، او عن الترسب الحمضي، او عن تراجع الأراضي الخصبة، او عن تخريب غابة الامازون، او عن النفايات الكيماوية والنووية، او عن تلوث مجاري المياه، او عن اختفاء النباتات على أنواعها، او عن تهديد العدد الكبير من المخلوقات بالفناء؟
كل ذلك تعرفونه ولذلك أنتم هنا، وما حضور العدد الذي فاق كل التوقعات الا الدليل على القلق الذي يساور الإنسانية والتي يبدو انها حزمت امرها وقررت ان تأخد مصير بيئتها بيدها في وجه من لا يرى في عطية الخالق الا سلعا تطرح في الأسواق حسب منطوق العرض والطلب، وأحيانا تخضع للاحتكار.
لقد أضحى العبء البيئي كبيراً!
لا ننكر على الانسان حقه في استعمال موارد الطبيعة من اجل تجويد حياته، ولا ننكر عليه ضرورة ابتكار التكنولوجيا واستعمالها، ولكن التمادي في الامر وصل بالإنسانية الى حدود تلامس الكارثة.
ان الوضع البيئي في العالم اليوم يستدعي تدخلا يتخطى العلوم الدقيقة وغير الدقيقة حتى. انه يستدعي تدخلا الهياً يوقظ الغارقين في اللامبالاة البيئية ويُذَكّر المخلوق بأهمية الخليقة ويسأله ماذا فعل بها. هذه البيئة الجميلة الخلابة، نبع الموارد التي عاشت عليها البشرية لألاف السنين، أصبحت منهكة، هرمة، مستهلكة ووضعها على شفير الهاوية.
هنا على كنيسة المسيح ان تتدخل من اجل لجم التدهور وردع المخربين عن التمادي في غيهم وحفظ ما بقي لنا من الخليقة وحمايته، ومعالجة ما يمكن معالجته.
قدرات ومجالات التدخل لدى الكنيسة كثيرة ومتنوعة، وهي قبل كل شيء متسلحة بقيم السيد المتجسد القائمة على المحبة، محبة الاخر ومحبة الخليقة. في المحبة تَرَفُع، وفي الترفع انسلاخ عن المادة وامتناع عن اذية القريب من اجل الحصول عليها.
تستند الكنيسة، على الصعيد التطبيقي، على منظومة قيم السيد المتجسد وسلوكه وتعاليمه. كما لا بد لها من الاعتماد على المؤسسات التي تستطيع عبرها القيام باللازم من اجل انقاذ الخليقة.
الكنيسة اجتماعيا هي رعايا وابرشيات ومؤسسات وقياديون كلمتهم مسموعة، وقدرة كل هؤلاء على التأثير عالية جدا، نظرا للمصداقية التي تتمتع بها الكنيسة.
المطلوب هو خلق ثقافة حماية الخليقة تتجذر في نفوس الناس لدرجة ان يصبح تفكيرهم وتصبح ردود فعلهم في توجه حماية الخليقة.
اما المقاربة فهي قائمة على بعدين: التوعية والمناصرة، على ان تكون الكنيسة هي القدوة.
التوعية تكون عبر المؤسسات التعليمية، والرعايا والاعلام والنشاطات الثقافية من محاضرات وندوات وورش عمل ومؤتمرات وحملات توعية، اما المناصرة فتكون عبر المؤسسات البيئية وغيرها من الهيئات الكنسية او عبر الناشطين الذين يهدفون الى الحفاظ على الخليقة. في كلا البعدين، لا بد من مأسسة الأنشطة توخيا للاستدامة.
يجب ان تدخل حماية الخليقة في البرامج التعليمية على كل المستويات، في المدارس والجامعات، وبشتى الوسائل والتقنيات التعليمية المتوفرة، لكي تصبح جزءا من ثقافة المجتمع.
إضافة الى ذلك، لا بد من ادخال ثقافة حماية الخليقة الى برامج تعليم اللاهوت وتحضير خدام الرعايا، وهذا ما تقوم به رابطة كليات والمعاهد اللاهوتية في الشرق الأوسط التابعة لمجلس كنائس الشرق الأوسط التي كانت شريكا أساسيا في مؤتمر العدالة البيئية الذي نظمته وحدة العدالة البيئية في المجلس في تشرين الأول الماضي والذي استضاف قيادات كنسية وخبراء محليين ودوليين على علاقة وثيقة بالكنيسة اضافة الى طلاب اللاهوت من مختلف كليات الرابطة، وسوف نأتي على نتائج هذا المؤتمر في ختام كلمتي.
على صعيد آخر، يجب ان نتذكر ان الكنيسة هي من المالكين العقاريين الكبار، وبذلك هي تستطيع التحكم بإدارة الأرض واستعمالها وحمايتها.
في هذا السياق، تستطيع الكنيسة اقتراح وحتى فرض تشريعات حول الوسيلة الفضلى لاستعمال الأرض وتوزيع المناطق السكنية والمناطق الصناعية، كذلك تستطيع ان تكثر من المحميات الطبيعية حفاظا على التوازن البيئي، دون ان تؤثر على مستلزمات النمو المديني العمراني والاقتصادي.
بشكل مواز، تستطيع الكنيسة ان تكون منقذا أساسيا للتربة عبر مشاريع التشجير التي تساعد التربة على التماسك وعلى الحفاظ على انتاجيتها الزراعية. لقد بدأنا ذلك في المجلس في لبنان وسمينا هذا المشروع "أيام التشجير" ونسعى الى تعميمه في مختلف مناطق الشرق الأوسط.
كل ذلك يفترض ويوجب ان تتحول الكنيسة تدريجيا الى كنيسة خضراء، أي ان تشهد هيكليتها وتوجهاتها تغييرا جذريا فيما يتعلق بالتغير المناخي وحماية البيئة، وهي تحمل في ثقافتها وتاريخها ما يسهل هذا الامر من القديسين البيئيين الى المناسبات البيئية والزراعية الى الليتورجيا البيئية. لقد كان البعد الزراعي حاضرا في كل تاريخ الكنيسة والرهبان الذين طبعوها بثقافتهم كانوا زراعيين وبيئيين.
في هذا السياق لا بد ان تدعو الكنيسة الى تصالح الانسان مع البيئة وتذكيره انها وديعة في عهدته ليس الا، وان عليه ان يحفظ الأمانة، لأنه بذلك يكون بصدد ممارسة فعل ايمان بالخالق الذي يدين له بكل شيء.
في سياق متصل، تستطيع ان تكون الكنيسة مرجعا لإطلاق مشاريع بيئية واسعة النطاق تتعاطى مع نمط حياة الانسان الذي اعتاد على الترف والذي أصبح المصدر الأساسي للنفايات في العالم، أولا عبر التوعية والحث على تغيير نمط الحياة والتوجه الى الحياة البسيطة من ناحية الاستهلاك، وثانيا عبر التشجيع على إطلاق مشاريع تدوير النفايات وجعل هذا الامر ليس فقط حاميا للبيئة وانما أيضا مدرا للدخل ومحفزا للاستخدام.
في نهاية كلمتي، التي اتوخى عبرها تغييرا جذريا في توجه الكنيسة البيئي، يؤدي الى تغيير جذري في حياة البشر، لا بد لي ان اتوقف امام وثيقتين هامتين صدرتا عن مجلس كنائس الشرق الأوسط.
الوثيقة الأولى هي توصيات مؤتمر التغير المناخي الذي أشرنا اليه أعلاه، نقتطف منها بعض الملامح الأساسية:
- المشاركة والعمل الجماعي والتعاون والتنسيق، بما في ذلك المشاركة الشعبية المحلية، من أجل التعامل مع هذه المشكلة الوازنة
- مساعدة الكنائس والعمل معها على التحول إلى الكنيسة الخضراء
- ايجاد الكتاب المقدس الأخضر الذي يسلط الضوء على النصوص ويتحدث عن الطبيعة والبيئة والسلام ويحدث التغيير في أنماط حياة الناس
- إقامة دروس ومحاضرات بيئية في المدارس والجامعات بهدف تغيير اتجاهات الأطفال والشباب نحو البيئة، خاصة أن الكنائس هي التي تدير المدارس والجامعات.
الوثيقة الثانية هي البيان الذي صدر عن قيادة مجلس كنائس الشرق الأوسط. وقد ورد في هذه الوثيقة المبادئ التالية:
1- الالتزام العالمي الطويل المدى: يتطلب التهديد الطارئ للمناخ على الصعيد العالمي استجابة عالمية والتزامًا طويل الامد.
2- التمويل العادل للمناخ: تلتزم الدول بالتمويل العادل للعمل المناخي وتبادل الخبرات. ولا يتعين على الدول النامية أن تختار بين المديونية والفقر الناجم عن تغير المناخ.
3- الإدارة العادلة للموارد: العدالة المناخية متشابكة مع العدالة السياسية والاقتصادية. هناك حاجة إلى مزيد من العدالة السياسية والاقتصادية وحل الصراعات في الشرق الأوسط.
4- أنماط حياة أبسط: إعادة النظر في علاقتنا بالطبيعة اذ ان نوعية الحياة لا تتمثل في وفرة الممتلكات المادية. علينا التأمل مليا في نهج يسوع تجاه الثروة.
5- التحولات العادلة: إزالة الكربون من اقتصاداتنا تتطلب التدريب والاستثمار لخلق سبل عيش مستدامة. المطلوب تجنب الظلم المتمثل في استغلال الدول التي يجري استخراج الموارد منها، كما يجب تجنب استبدال سلوك ضار بآخر.
6- التزام الكنيسة: أن تكون الكنيسة صوتًا نبويًا في حياة التغيير الذي نتوخاه. أن تكون قدوة وتتحدث إلى مجتمعاتها وتشجعها على التبشير والصلاة والعمل بشأن تغير المناخ في عاداتها وأنشطتها. متابعة حملة موسم الخليقة السنوية. على الكنيسة أن تحول الإيمان إلى عمل.
7- تعاون الكنيسة والدولة: دعوة الحكومات إلى زيادة مشاركتها مع الهيئات الدينية في أزمة المناخ. صوت الكنيسة ذو مصداقية اذ هي تتمتع بسنوات من الخبرة في العمل المجتمعي.
التحدي موجود، الأدوات موجودة، والطرائق معروفة.
يتطلب الأمر الإرادة والشجاعة لإنجازه.
الا قدرنا الله على ذلك!
************************