خلف ستار الحقد

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

وجوه احبة اختفت، توارت في الزمان والمكان، في ظروف نجهلها، ولأسباب، في أكثر الأحيان، نجهلها.

الاختفاء، الاختطاف، التغييب، سمِّ الظاهرة ما شئت، انما الفعل واحد، والفاعل واحد، والنتائج متقاربة، او واحدة.

هكذا، وبكل بساطة، يكون الانسان بين اهله واحباءه، وفجأة لا يعود.

يصبح ذكرى، ولوعةً، وشوقاً، وترقباً، وحتى انتظاراً، يعرفهم من يكابدهم دون جدوى.

عندما يكون الانسان مغموساً في نشاطات ذات طابع نزاعي، لا بد له ان لا يستبعد مصيرا من هذا النوع، الاختطاف او التغييب القسري. ولكن لماذا على من لم ينغمس في هذه المعمعة ان يصل الى هذا المصير؟

هل هي الاضرار الجانبية لنزاعات الجماعات المتناحرة، المتناقضة، المتنابذة؟

اضرار جانبية! كم هو سهل وموجع هذا التعبير في آن!

معنى هذا الكلام ان الضحايا البريئة هي اضرار رخيصة، حين لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. هي نتائج لا يحسب لها حساب حين يشتد صليل السيوف او ازيز الرصاص او دوي المدافع.

الأسير خلال المعركة يستفيد من القوانين المتفق عليها عالميا، والتي تحمي أسرى الحروب، اما المفقود، خطفا اوتغييبا فمما يستفيد؟

أية حماية له، والذي اختطفه او غيبه لا يعترف بذلك، ويُحل نفسه تاليا من اية مساءلة قانونية؟

خلال المعارك، لا يستطيع من اتخذ أسرى، نكران وجودهم لديه، على ضوء المعاهدات الدولية، اما الذي اخذ "أسرى" خارج المعركة، عن طريق الخطف او الاستدراج او نصب المكائد، فما السبيل الى محاسبته؟

مساكين هم المفقودون، خطفا وتغييبا قسريا وغير ذلك من الأساليب.

كل مرجعية سياسية او اجتماعية ترمي وزرهم على الأخرين، وتغسل يديها بطريقة بيلاطسية، فلا يصل أهلهم واحباءهم الى نتيجة.

انها درب جلجلة لا يعرف أحدا نهايتها، لا بل يعرف الجميع نهاية من سلكها بحثا عن عزيز اختفى في ظروف غامضة.

موجعة ومهينة في آن، مشاهد الاهل يحملون صور من فقدوا، يواجهون بها من اولوه امر البحث عنهم دون نتيجة.

كيف يمضي هؤلاء الناس ايامهم ولياليهم؟ كيف يعيشون، كيف تمر الساعات والأيام والاشهر والسنوات عليهم؟ كيف يتحملون السكين يتحرك في الجرح كلما ذكروا عزيزا مغيبا او كلما تحركت الذكريات؟ ... هذا إذا نعموا بلحظات من نسيان!

انه الوجع الذي ما بعده وجع!

 في الفترات الأولى من التغييب، ينعم المحبين ببعض الامل، امل عودة المحبوب ولو كان يحمل آثارا نفسية وجسدية للاحتجاز. انهم يقبلونه مهما كان وضعه الصحي... انهم مستعدون للعلاج. المهم انهم ينتظرون بشكل او بأخر اخبارا قد تكون مفرحة او قد تهدئ من روعهم.

اما عندما يطول الزمان، فتختلط التوقعات بين الاخبار المفرحة وتلك الموجعة واللا اخبار. وتلك الأخيرة تضيف الى الوجع عبئ الضياع، عبئ السير في صحراء من التيه، عبئ الانتظار الى ما لا نهاية.

هنا تُطرح مجموعة مختلفة من الأسئلة نفسها، ليس من جهة الضحية، بل من جهة الجلاد.

كيف يستمر بحياته من مارس الخطف على مخلوق آخر مثله، خصوصا إذا نكل به قبل القتل او مثّل به بعد القتل؟

الا تسكن مخيلته صور الاحداث التي كان هو "بطلها"؟

الا تسكن ذاكرته أصوات الصراخ والانين وحشرجة الاحتضار؟

هل يتذكر آخر نظرات ضحيته قبل الاجهاز عليها؟

قد تكون هذه الأسئلة ساذجة إذا تذكرنا ان من قام بهذا العمل هو مخلوق قد امتهن اذلال النفس الانسانية وازهاق الروح البشرية.

ولكن لا بد من طرحها، لكي نسأل أي نوع من المخلوقات هو من يرتكب هكذا أفعال.

نعم، يبدو ان الكائن البشري لا زال قادرا على ان يتحول الى مخلوق مستعد للتجرد من كل إنسانية، وممارسة أفعال لا تليق بمن هو من المفترض انه خلق على صورة الله ومثاله.

هل ننسى الاستهزاء والجلد الذين تعرض لهم سيد طريق الجلجلة؟

هل ننسى المسامير تنهش جسد السيد المتجسد والحربة تنحره؟

المشهد ما زال يتكرر منذ آلاف السنين، ولا يبدو انه سوف يتوقف، اذ يتحفنا الاعلام يوميا بمشاهد من كافة انحاء العالم تعود الى قرون خلت.

ويلك أيها الانسان من "اخيك" الانسان!

انه يتحول، بجزء من الثانية، الى وحش خرج لتوه من عصور بدايات البشرية.

الخطف او الاحتجاز او التغييب، هذا القتل البطيء، لا بد ان يكون فاعله حاملا امراضا نفسية يصعب علاجها، خصوصا بعد تمادي هذا المخلوق بأفعاله الشنيعة، اذ كلما تمادى بهذا العمل كلما أصبحت هذه الممارسات جزءا من كيانه المَرَضي.

قل لي أيها المخلوق الصغير، ما هو نوع الارتياح الذي شعرت به عندما احتجزت كائنا بشريا، ونكلت به وقضيت عليه؟

نحن، في مجلس كنائس الشرق الأوسط، وانطلاقا من ايماننا المسيحي، نرفض أي ممارسة من هذا النوع ومهما كانت دوافعها او أسبابها.

انها أولا، تجريد للإنسان من انسانيته، وثانيا، امتهان لكرامته الانسانية، وثالثا، إهانة للجنس البشري برمته.

ابعد من القوانين والمواثيق الدولية، مرجعنا هو الانسان بقيمه وقيمته الاجتماعية التي لا تعبر عنها كلمات، ولا تحدها نصوص، لا قانونية ولا علمية، بل ممارسات المحبة التي عليها بني ايماننا المسيحي، والإنساني طبعاً.

هذه الندوة التاسعة من ندوات الكرامة الإنسانية، حوّلنا فيها، ببركة وتوجيه قيادات المجلس، ذكرى خطف مطراني حلب الى ذكرى نشمل فيها كل من خُطف او غُيّب قسراً، وعقدناها يوم الرابع والعشرين من نيسان/ابريل، يوم ذكرى الإبادة الأرمنية، التي ترافقت أيضا مع إبادة مجموعات بشرية كبرى من السريان والروم والاكراد والعلويين واليزيديين، في الاناضول وشمال المشرق الانطاكي.

كم مليون انسان خطف وغيب قسرا قبل ان يقضي نحبه تحت اسنة القتلة هناك؟

لا أحد يجرؤ ان يعترف!

بين تغييب الامام المحبب الى قلوب اللبنانيين والمشرقيين، وخطف حبري حلب المحبوبين من أهلهم في سائر المشرق الانطاكي، خراب امة وتمزقها وضياعها، وتشرد شعبها في كل اصقاع المعمورة. من لبنان الى الشام الى العراق، وقبلهم فلسطين، مسار الدمار واحد لأن منبع التأمر واحد والهدف لا لبس فيه.

بين الناس الموجوعة التي تعاني الامرين من غياب من فقدت، وقد ترحل من هذه الفانية حاملة حرقة الفقدان، والأحبة المفقودين المجهولين المصير، ستار من حقد، لا يمكن ان ترفعه الا المحبة، هذه القيمة العليا التي لم يتعلمها الجلادون من السيد الذي غفر لجلاديه على الصليب.

نخشى ما نخشاه ان يكون امام البشرية طريق طويل قبل ان تستحق رضى الرحمن.

Previous
Previous

متحدون في الصلاة

Next
Next

مجلس كنائس الشرق الأوسط مشاركًا في منتدى حول المواطنة والمنظّمات غير الحكوميّة