بين تحولات الحداثة والتفكك الاسري

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

عندما وصلني شريط عن معرض للرسوم والصور الشيطانية في البرلمان الأوروبي الشهر الماضي، كان الاشمئزاز هو ردة فعلي الأولى عند مشاهدة الشريط. ردة فعلي كانت لإنسان عادي يرى ما يزعج النظر والوجدان والنفس.

استجمعت فضول وشجاعة الباحث والناشط الاجتماعي وعدت اتصفح من جديد كتاب البؤس هذا، مرتين وثلاثة واربعة وأكثر وامعنت تحليلا في هذه الصور والرسوم حتى انتهى بي المطاف الى شاطئ الحزن والشفقة.

قلت لنفسي أي نفس مريضة يمكن ان تنتج هكذا فن، واسمح لنفسي هنا ان أطلق احكاما معيارية، محرمة علينا نحن الباحثين الاجتماعيين الذين من المفترض ان نحلل الظواهر بانسحاب تام وموضوعية، وان نتعامل مع الوقائع وكأنها أشياء كما يقول اميل دوركايم أحد آباء علم الاجتماع.

الحزن والشفقة اجتاحاني لان السؤال الأساس الذي تبادر الى ذهني هو " في أي جو عائلي نشأ وترعرع هؤلاء الناس حتى أصبحوا فريسة لهذا السقوط الإنساني والنفسي والاجتماعي والفني المريع؟"

أي نوع من الطفولة عاش هؤلاء وباي نوع من مواكبة لمراهقتهم عاشوا حتى وصلوا الى هذا المستوى من الكره للذات، قبل كرههم للمجتمع، وقبل لفظ المجتمع لهم ولفظهم له؟

هذا المعرض هو نموذج، هو غيض من فيض، لما تتحفنا به وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي من آفات لا عد لها ولا حصر.

المجتمع الحديث، ثقافة الحداثة، مبنيان على الحرية، حرية التفكير وحرية التعبير وحرية إطلاق العنان للمخيلة. الحداثة قائمة على الابتكار والمبادرة والابداع، ولكن هل كل شيء أصبح متاحاً؟

كل شيء زاد عن حده أصبح عبئا على بني البشر!

المجتمع هو الإطار الذي ينمو ضمنه الفرد في مسار التنشئة الاجتماعية التي تؤطرها الاسرة أولا، ثم الاتراب، فالمدرسة فالجامعة فمكان العمل. وكانت هذه التنشئة الاجتماعية تسير بشكل "طبيعي"، واحتضنت، على علاتها، الجنس البشري لعدة الوف من السنوات، فأنتج المجتمع البشري منظومة القيم، ضابطة إيقاع الانسان في علاقاته مع المجتمع وفي تصرفاته ومواقفه، وواكبت هذه المنظومة المجتمع الإنساني وامّنت استمراره وانتاجه لحضارة لا شك انها جميلة ومتقدمة، حتى بدأ الخلل الاجتماعي يذر قرنه ويسير بهذه الحضارة نحو منزلقات هي بغنى عنها وقد لا تحمد عقباها.

يتحفنا الاعلام يوميا بأخبار عن أمور نعتبرها ناشزة في ثقافتنا وحضارتنا، لا بل مقززة، ليس فقط لنا نحن كمشرقيين وعرب، بل أيضا لشرائح واسعة من أبناء المجتمعات الصناعية المتقدمة الذين يحاربونها.

نرى اشكالا جديدة من العلاقات الحميمة لم تكن مألوفة، واشكالا جديدة من الاسر، وخيارات جديدة بالنسبة الى الهوية البيولوجية للناس، واشكالا جديدة من الايمان والعبادات والطقوس، كما نرى اشكالاً جديدة من الانتماءات السياسية والعقائدية المتطرفة الالغائية، تغرق انسان الحداثة بما لا قدرة له على تحمله.

ما كان في الماضي عيبا او معيارا، أصبح اليوم مقبولا، لا بل يجد من يدافع عنه تحت ذريعة الحريات الفردية والعامة!

انا اقبل ان ادافع عن الناس الذين ساروا في المسارات الباتولوجية الخاطئة لأنهم أخوتي في الإنسانية، وانا أحبهم وأقول عنهم ما قاله السيد المتجسد "من منكم بلا خطيئة فليرجمها أولا بحجر" بالمعني المجازي طبعاً. انا لا ادينهم ولا احكم عليهم، لا بل انا مستعد لاحتضانهم بكل المحبة التي علمني إياها السيد، ولكنني لن اقبل ان يفرضوا ما اعتنقوه على سائر المجتمع، لان مقارباتهم تحولت عدائية، تريد ان تضع المجتمع في حالة اذعان لإرادتهم ولنزواتهم ولمعتقداتهم ولطقوسهم.

باي حق تسمح بعض الدول ان تقام صلوات شيطانية في المدارس حيث يلبس الأطفال ملابس توحي بالأبالسة ويتحلقون حول مختل اجتماعي يعلمهم ما سوف يؤدي بهم الى التهلكة. انا اقصد هنا التهلكة الاجتماعية، ولا ادخل الماوراء في تحليلي رغم هويتي المهنية التي تسمح لي بذلك.

انها الاسرة المفككة من جهة، وانه الاعلام الذي لم يعد له من ضوابط من جهة أخرى.

لقد اخرج الانترنت كل اشكال الاضطرابات النفسية والغباء والجهل الى العلن، وأصبح واحد من المصابين بهذه الويلات يعبر عن رأيه وينشر هلوساته مثله مثل أي عالم أفني عمره في البحث العلمي من اجل صلاح البشرية وفلاحها.

هذا المُركب المزدوج، الاسرة المفككة والاعلام المتفلت، يحظيان بقوة تأزرية منقطعة النظير، حيث الواحد منهم يدعم الاخر بشكل مستدام.

لقد نشأنا على قيم اسرية معينة، واضحة المعالم، تختلف بين منطقة وأخرى بعض الشيء، كما تختلف بين جيل وأخر بعض الشيء، ولكن التحولات الجذرية التي تعيشها البشرية منذ عقود قليلة تدعو الى القلق. أقول تحولات، لا بل انقلاب للقيم الاجتماعية والاسرية رأساً على عقب. صحيح ان بعض من هذه المصائب او الموبقات السلوكية هي قديمة قدم الجنس البشري، ولكنها كانت الشواذ الذي يثبت القاعدة، بينما الكثير منها قد تحول اليوم الى قاعدة.

لا اجرؤ على تسمية او ذكر أي منها لكثرة ما تثير فيّ من اشمئزاز وقلق، تماما كما الصور الشيطانية، وانا متأكد انكم قد سمعتم بها وقرأتم عنها وجلها يضرب القيم الاسرية في صميمها.

الاسرة هي الخلية الأساسية في المجتمع، وإذا هلكت هلك المجتمع.

نحن في مجلس كنائس الشرق الأوسط، المؤسسة الايمانية الاجتماعية التربوية التنموية الحوارية، ندافع عن حقوق الانسان منذ تأسيسنا، ونحن على عتبة اليوبيل الخمسين قد ارسينا برنامجا متقدما يتعامل مع الرأسمال والتماسك الاجتماعيين والكرامة الانسانية. نحن ندافع ونقيم برامج توعية ومناصرة لحقوق الاسرة والمرأة والطفل وكل ثقيلي الاحمال والمتعبين الذين تكلم عنهم السيد المتجسد، في مختلف مناطق المشرق الانطاكي، ما استطعنا الى ذلك سبيلاً، وسوف ندافع ونحتضن كل من يحتاج الى أي شكل من اشكال الدعم النفسي والاجتماعي والاقتصادي، ولكننا مدافعون بكل ما اوتينا من طاقات وموارد عن وحدة المجتمع وسلامته وسلامه. نحن نحارب الآفات ولا نحارب المصابين بها، بل هم يجدون عندنا قلبا محبا واذنا صاغية ويدا ممدودة.

الاسرة خط احمر لان سلامة المجتمع خط احمر وكل من سوف يحاول المس بهذه الخلية الأساسية نعتبره بحالة الاجرام الاجتماعي، أي مجرما ضد الامة والمجتمع.

نحن نوقن جيدا ان للأسر مشاكلها، وقد تمر الاسرة بأزمة اختلال وظيفي وتستحيل كيانا مدمرا للفرد في بعض الأحيان، ولكن هذا ليس سببا للتخلي عنها او التوق نحو الغاءها، لا بل من الضرورة بمكان ارساء المؤسسات التي تُحَسّن اداءها وتحصنها ضد السقوط في مطبات الحياة المتعددة والمتزايدة.

ان التحضير للزواج، الذي يرتدي طابعا دينيا اليوم، وهذا امر جيد، لا بد ان يتحول تحضيرا مجتمعيا للزواج ولإنشاء اسرة سوية تساهم في حصانة المجتمع، كما ان الاستشارات العائلية (family counseling) يجب ان تصبح جزءا من ثقافة المجتمع والدولة منعا لتفكك الاسرة وتحول افرادها الى شراذم اجتماعية، فيستحيلون لقمة سائغة لشتى اشكال الامراض الاجتماعية وفريسة للمفسدين في الارض.

ولكننا لا نستطيع التغاضي عن الشأن الاقتصادي الذي يعتبر أحد اهم ركائز المجتمع والاسرة.

يتمتع الشأن الاقتصادي بنفس أهمية التربية والتنشئة الاجتماعية في الحفاظ على الاسرة، اذ ان الفقر والحرمان والبطالة يشكلون أيضا أسبابا أساسية في تفكك الاسرة، وتوازن هذين البعدين هو اساسي في الحفاظ على تماسك وديمومة الاسرة. قد يدعم البعد الاقتصادي وضعا أسريا متضعضعا من الناحية العلائقية، كما يمكن ان يدعم البعد النفسي العلائقي وضعا أسريا غير متماسك من الناحية الاقتصادية، ولكن يجب ان نتذكر دائما ان لمرونة كل من هذين البعدين حدوداً في دوره في الحفاظ على الاسرة. لذلك لا يجب ان يغيب عن بالنا، ولو للحظة، دور الدولة في إرساء العدالة الاجتماعية وحسن توزيع الدخل والثروة.

ان تجاهل هذا الامر ورمي كل الحمل على البعد النفسي او المعنوي او العلائقي يعرض المجتمع والاسرة لأشد انواع الضغط الذي قد يقود الى التفكك الاسري الاجتماعي. لقد أظهرت الدراسات في علم الاجتماع الاقتصادي كم ان التقلبات والأزمات الاقتصادية تؤدي الى تفكك الاسر وانهيار التماسك الاجتماعي. ما نعيشه نحن اليوم في لبنان، وسائر مناطق المشرق الانطاكي المنكوب، لهو خير دليل على ذلك. ان تجربتنا فريدة بمعنى تضافر الهجمة السياسية وتبعاتها الاقتصادية مع الهجمة الثقافية-الإعلامية التي تجتاح العالم. فقر واستلاب ثقافي.

لا بد لي ان اختم بمختصر القول ان الاعلام والاقتصاد يشكلان التحديان الأكبر للأسرة في بلادي وإننا، كمؤسسات المجتمع الأهلي او المدني، نستطيع ان نكون الحصى التي تسند الخابية، ولكن تبقى الخابية في وضع استقرار هش ما لم يكن للدولة، جمعية الشعب الكبرى، والمؤطره لطاقاته، الدور الأكبر.

ان تحصين المجتمع، على المستوى الاسري كما على باقي مستويات البنية الاجتماعية، تحصينا متماسكا ومستداما، يحتاج الى تضافر قوى المجتمع، الرسمية منها والشعبية، وهنا يكمن التحدي الأكبر.

Previous
Previous

متحدون في الصلاة

Next
Next

"التحدّيات الّتي تواجه القيم الأسريّة"