السلطة والقيادة والرؤية
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
تشكل السلطة الضمانة للانتظام الاجتماعي، لذلك نجد انه عندما يدخل المجتمع- او الجماعة – في حالة من الفوضى، فلا سبيل الى استتباب النظام الا عبر السلطة.
هذا في المطلق، ولكن في الحياة العملية، فان السلطة تتجسد في شخص محدد، مطلوب منه ان يمارس سلطته من اجل حماية استقرار المجتمع او المجموع، اما عبر الارشادات والتعليمات او الأوامر، او عبر ممارسات قيادية تؤمن إعادة الوضع الى ما كان عليه. في كلتا الحالتين، يتمتع رأس السلطة بالقوة الروحية للإكراه او للإلزام، وهذه القوة الروحية او المعنوية ترسم خطوط انضباط ضرورية لإنقاذ الاستقرار في المجتمع او الجماعة.
ان الفوضى هي قوى خفية في حياتنا اليومية، قديما كما في المجتمع الحديث، ولكن بأشكال مختلفة، اذ انه مجتمع معقد التركيب، تكثر فيه الازمات التي قد تقلبه رأسا على عقب بين ليلة وضحاها، والذي تعيشه البشرية اليوم خير دليل على ذلك.
ان المجتمع البشري مبني على أساس السلطة، حيث يخضع لها الانسان منذ ولادته وخلال كل مراحل حياته، تأتيه على شكل تعليمات وارشادات واوامر وحوافز وترغيب وترهيب، لدرجة ان الانسان يجدها مغروسة في اعماق نفسه وتصبح هي الوسيط بينه وبين محيطه الاجتماعي بشتى ابعاده، الاجتماعية والثقافية والمادية والايمانية وغيرها من ابعاد الوجود الإنساني. انها تصبح عميقة الجذور في نفس الانسان لدرجة انه يبرر كل ما تقوم به. انها تستحيل وسيلته المعرفية، وهو يقبل بها لأنها تحميه من فقدان الاستقرار، فتعطيه الامان وتساعده على النمو.
ولكن هناك حالات عبر التاريخ حيث تمرد الانسان على السلطة فرفضها وأعاد النظر فيها، مما يضع المجتمع او المجموع في مواجهة الفوضى التي لا يخرجه منها الا السلطة نفسها او سلطة جديدة نتجت عن حركة الانتفاض التي قام بها الانسان.
في كلتا الحالتين، لا يستقر المجتمع الا بقوى السلطة التي تفشل قوى الفوضى.
لا يمكننا التكلم عن السلطة دون التوقف اما مفهوم القيادة لما لها من دور حيوي في بقاء المجتمع والمؤسسات وتطورها وفلاحها.
القيادة هي عملية تشجيع وتحفيز الآخرين على العمل بحماس من أجل تحقيق اهداف محددة، وهي تاليا العامل الانساني الذي يساعد المجموعة على بلورة أهدافها والسير نحوها. إنها القوة التي تُزَخّم قرارات وأفعال المجموعة البشرية. بدون قيادة تصبح المؤسسة في حال من الارباك التنظيمي والعملاني ويتعثر سيرها الى الامام.
بفضل القيادة، تطور المجموعة قدراتها إلى أقصى حد، اذ ان القيادة تضمن التآزر فتحول الإمكانات إلى حقيقة مهما كان حجم أو طبيعة المجتمع. إنها الفعل الذي يحدد ويطور ويستخدم الإمكانات الموجودة في المجتمع وموارده.
اما الرؤية، وهي مرتبطة بالكفاءات الفكرية والمفاهيمية عند القائد، فهي أساسية من اجل الفلاح في القيادة. انها نظرة طويلة المدى لما يمكن أو ينبغي تحقيقه في مؤسسة ما، وهي عنصر محفز للقائد وللذين يعملون تحت قيادته. انها تتضمن المعتقدات والقيم المشتركة للمؤسسة وهي قاعدة ثقافة المجموع او المؤسسة.
من جهة أخرى، تشكل الرؤية عنصراً أساسياً في القيادة اذ ان قادة المؤسسات، من أجل القيام بدورهم القيادي على الشكل الصحيح، يحتاجون الى تقييم مكونات واخطار المحيط الذي يعملون ضمنه، كما عليهم استشراف الظروف المستقبلية لهذه البيئة ومن ثم، رسم استراتيجيات لحسن التعامل مع هذه الظروف المستقبلية.
هنا تلعب المناقب، التي من المفترض ان ترعى عمل المؤسسة التي تسير شؤون المجتمع، دورا أساسيا في رسم حدود هامش المناورة السياسية للقائد، وتمنع ان تختزل مصالح المجتمع او المؤسسة بمصالح القائد.
ولكن عندما تكون القيادة استبدادية او شمولية، فإنها تنعكس بشكل وازن على قدرات الجماعة وحرية تحركها وابداعها وتاليا، إنجازاتها.
في القيادة الشمولية تصبح المشاركة العامة محدودة ويخضع المجموع الى املاءات القائد، الذي عبره تمر كل العلاقات وفيه تتمركز كل القرارات. هو يزرع او يقوي التوتر والريبة والخوف والإحباط وغيرها من المشاعر السلبية، ويحصدها سطوة وسيطرة اذ يتحول الى الملاذ والحامي للجماعة، او المجتمع طبعا. قوة سطوته متلازمة مع مشاعر الخوف والريبة التي يشيعها ضمن الجماعة، وكل الوسائل متاحة لذلك.
ان وضعا من هذا النوع، من شأنه، الى جانب قتل الابتكار والابداع في المجتمع او الجماعة، فإنه يضعهم في وضع الانكفاء او الانهزام الاجتماعيين، ويلزمهم بهامش تحرك محدود جدا، ضمن حيّز مصالحه. من شأن كل ذلك ان يؤدي الى عزلة المجموع او الجماعة او المجتمع.
إضافة الى ذلك، يضمحل منطق المشاركة وتنتفي ثقافة المساءلة، فيعمل القائد "الملهم" بلا حسيب ولا رقيب مهما كانت نتائج افعاله سلبية على المجتمع، وهذا يقوده الى البحث دائما عن كبش محرقة او عمن يرمي عليهم فشله او قصر نظره.
هذا عرض سريع ومختصر لمفاهيم أساسية يسير المجتمع الحديث على أساسها، وسوف نورد في مقالات لاحقة مفاهيم أخرى من الضروري ان يتعرف اليها القيمون على المؤسسات، الكنسية منها والعلمانية.