الألم والظلم

البروفسور د. ميشال عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

الألم شعور ملازم للوجود الإنساني، يولد به ومعه، ويرافقه طيلة حياته، وينتهي معه.

هو متواجد في كل ابعاد حياتنا، يرافقنا مثل خيالنا، ونتوقع ظهوره في اية لحظة حتى ولو غاب عنا. شوكا وحسكا تنبت لك، ورد في الكتاب.

نحن نعرف انه في مكان ما من الزمان، من الحياة، لا يلبث ان يسيطر الالم على وجودنا في غفلة من الزمن، ويمسك بزمام مصيرنا وقد يغيرنا الى الابد.

الألم الجسدي والنفسي، يترافقان معا، ويتفاعلان معا، ويتضافران في مؤامرة يحيكونها على الانسان، وقد يسير به الامر الى التهلكة إذا تغلب أحدهم عليه.

مسببات الألم كثيرة، متشعبة، لا تعد ولا تحصى، حسب المصدر والنوع والمفاعيل.

الألم مصدره الأساسي الجرح، الجرح الجسدي او الجرح النفسي، وقد استطاع الطب الفوز بنسب كبيرة على الألم الجسدي بواسطة الأبحاث والاختراعات، كما استطاع علم النفس لجم مفاعيل الالام النفسية، ولكن ليس بنفس النسبة ولا بنفس النجاح.

المادة والروح تكونان الانسان، والمادة ملموسة، يمكن التحكم ببعضها، اما الروح، او النفس، فان السيطرة عليها ليس بمتناول الانسان بالشكل الكافي او المناسب.

لقد صدق جبران خليل جبران عندما قال ان "قاتل الجسم مقتول بفعلته، وقاتل الروح لا تدري به البشر". لقد كان يوقن تماما، بنظرته الثاقبة وروحانيته المتقدة كم ان الألم النفسي يمكن ان يخضع للتمويه ويكون سببا لخراب انسان دون القدرة على محاسبة المتسبب.

الألم هو وليد الظلم، نقيض العدالة التي لا مكان لها في هذا العالم.

والظلم يكون بالفكر، والظن، والنظرة، والهمسة، والايماءة، وكافة اشكال التواصل البشري التي حوّلها الناس الى اسنة فتاكة تمعن في الروح البشرية بطشا وتمزيقا.

في العلاقات العائلية ظلم، وفي علاقات العمل ظلم، وفي العلاقات الاجتماعية ظلم، وفي الحب ظلم، رغم انه من المفترض الا تكون هذه المجالات منبعا للظلم، وتاليا للألم، بل ان تكون سببا للفرح والتفاؤل.

اقوالنا الشعبية والشعر العربي مشبعة بأقوال عن الظلم والالم، كأن يقول أحد الامثال "اذا رأيت اثنين متفقان فلا تسألن الظلم على من"، او كما ورد عند احد شعراء العربية عن ظلم ذوي القربى كم هو اشد ايلاما من حد السيف.

الظلم يكون عندما يقوم انسان بتشييء انسان أخر، أي ان يحوله الى وسيلة او أداة، فيسبب له الما عميقا قد يحمله حتى نهاية حياته التي لن تكون جميلة بسبب التشوهات التي لا بد ان تكون نفسيته قد أصيبت بها.

الظلم يكون عندما تسلب انسان حقه، أيُ حق من حقوقه، وتحوله الى تابع مستعبد، لا حول له ولا قوة، فيفقد سيادته على نفسه ومصيره ومستقبله. ينطبق ذلك أيضا على الشعوب المغلوب على امرها والتي تعيش ظلماً والماً جماعيين.

الظلم وليد الاحكام المسبقة والجشع والفردية القاتلة وعدم احترام النفس البشرية، اذ ان من يحملون هذه الصفات لا يأبهون لكمية الألم التي يسببونها للغير.

عندما يمارس الغريب هذا الامر بحقك، فإنك قد تتفهمه، بحكم الجفاء الاجتماعي المستشري في العالم. اما عندما يقوم أقرب الناس اليك بهذا الامر، فانه يكون موجعا، نظرا لصلة القرابة أولا، وثانيا، لقدرة القريب على الايذاء أكثر من الغريب اجمالا، بسبب معرفته ببواطن الأمور ومواطن الاذية.

لقد اختصر أحد عظماء بلادي معاناة الانسان في زمن الحداثة اذ ورد على قلمه “إن آلاماً عظيمة، آلام لم يسبق لها مثيل، تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا، اذ ليس على الواحد منا أن ينكر ذاته فحسب، بل عليه أن يسير وحيداً بلا أمل ولا رجاء، لأن حياتنا الاجتماعية والروحية فاسدة ...واذا وجدت نفساً تمد يدها اليك مريدة أن ترافقك في سيرك نحو النور وجدتَ ألف يد أخرى قد امتدت إليها لكي تبقيها في الظلمة. ليس لابن النور مكان بين أبناء الظلمة، فبقدر ما يبذل لهم من المحبة، يبذلون له من البغضاء."

تنبينا سيرة السيد المتجسد، الذي ظلم نفسه وحمل خطايا العالم كفارة عن ذنوبنا، وذاق الألم والهوان، تنبينا هذه السيرة، في الاناجيل الأربعة، كم ان السيد، الذي لا فناء لملكه، رفع الألم والظلم عن الناس، على كل الصعد، المادية منها والروحية.

هو الذي اتى من اجل خلاص العالم، أطعم الجياع وشفى المرضى، وأوصى بالأطفال، على ضعفهم، ونادى المتعبين وثقيلي الاحمال ليريحهم. هو الذي حارب النفاق والرشوة والفساد لما تُسببه من ظلم لبني البشر، هو، في نفس الوقت حمى المرأة الآيلة الى الرجم، والتي سماها زانية من كان قد زنى معها.

هو الذي قال: وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلًا يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ، وَمَنْ قَالَ لأَخِيهِ: رَقَا، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْمَجْمَعِ، وَمَنْ قَالَ: يَا أَحْمَقُ، يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ نَارِ جَهَنَّمَ" (مت 5: 22)

هذا المتجسد الدهري قد اتى لكي تكون لنا حياة، ولتكن أفضل، اتي ليقيم العدل، لذلك يطلقون عليه في القداس الإلهي تسمية "شمس العدل" كذلك ينشدون له يوم سبت النور "قم يا رب واحكم في الأرض".

ان ملكوت الله قائم أساسا على العدل، وقد اختارت الحركة المسكونية العالمية قيمتين أساسيتين من اجل مسيرتها، هما العدل والسلام، وفي الحقيقة ان لا سلام من دون عدل، وهذا ما لم يفهمه الجنس البشري بعد، لذلك يقتتلون الى ما لا نهاية على مجد باطل.

ان في الألم لحياة لذوي الفهم، لذلك "ربي اجعلني ان ابات مظلوماً وليس ظالماً".

Previous
Previous

فيديو – الحلقة الحادية عشرة من برنامج مسكونيّات

Next
Next

قداسة البابا فرنسيس يعيّن غبطة البطريرك روفائيل بيدروس الحادي والعشرين ميناسيان في قائمة أعضاء دائرة الكنائس الشرقيّة في الفاتيكان