اللغة الام، تعدد الالسن واكتساب المعرف
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
اعتمدت منظمة الأمم المتحدة يوم الواحد والعشرين من شباط/فبراير على انه اليوم الدولي للغة الام، وهي تعتبر ان صون هذه اللغة الام هي وسيلة ازدهار كونها تشكل قنوات للمعارف التقليدية والتراث الثقافي (https://www.un.org/ar/observances/mother-language-day)، كما تعتبر ان تزايد اختفاء الألسن يشكل تحد للتنوع اللغوي على ضوء واقع ان 40% من سكان العالم يفتقر إلى سبل الحصول على التعليم بألسنتهم الأم، وقد يتجاوز ذلك الرقم 90% في بعض مناطق العالم. كما تشدد المنظمة الدولية على ان العديد من المنافع تعود على المتعلمين عند استخدام اللغة الام في التعليم، ويؤدي ذلك الى تعليم أفضل كما الى احترام الذات، وتطوير التفكير النقدي. في نفس السياق، تشكل اللغة الام وسيلة نقل الثقافة من جيل الى جيل والتعلم بين الأجيال وصون الثقافة، أي ان هذه اللغة هي الوسيلة الأساسية للتنشئة الاجتماعية كما للتنمية المستدامة.
وفي تطرقها لأمر شديد الأهمية في مجتمعنا الحديث، تطرح المنظمة الأممية لعام 2024 إشكالية سياسات التعليم المتعدد الألسن، تحت عنوان ❞التعليم متعدد الألسن بوصفه أحد ركائز التعليم والتعلم بين الأجيال ❝ وتسطر ضرورة التعليم الشامل وصون ألسن السكان الأصليين، على ان يكون العليم الأساسي بلسان المتعلم الأم، ومن ثم يجري ادخال تدريجي لألسن أخرى، منعا لحصول هوة بين المتعلم واسرته.
في سياق مواز، تعتبر الأمم المتحدة إن التعليم متعدد الألسن يساعد في صون ألسن الأقليات او السكان الأصليين في المجتمعات المتعددة الإثنيات او الثقافات.
لا شك ان مسألة اللغة الام، والحفاظ عليها، وتوثيقها، وتطويرها، وتعليمها للأجيال الصاعدة يعتبر امراً أساس في صيانة ثقافات الشعوب والحفاظ على ذاكرتها التاريخية، كونها احدى الأدوات الأساسية للتنشئة الاجتماعية كما ذكرنا أعلاه. ان الشعب الذي يفقد ثقافته الشعبية، التي تختزنها اللغة الام، شعب يفقد هويته والكثير من قيمه.
المشكلة تكمن في حاجة المجتمعات الى ولوج عالم الحداثة واكتساب العلوم الدقيقة التي قد لا تكون متوفرة في اللغة الام. وهنا يكمن التحدي. كيف نكتسب مهارات وعلوم اُنتجت بغير لغتنا الام من دون التأثير على هذه الأخيرة او حتى القضاء عليها عبر اضمحلالها تدريجيا؟
لا شك ان في الامر "خطورة" ولا بد ان تكون الدولة والمثقفون والجمعيات التي تتعاطى الشؤون الثقافية واعية لهذا الامر، وعليها التوافق على سياسة تعليمية تفتح المجتمع على لغات غير لغته الام، فيكتسب ناسه علوما ومهارات ويحافظون على لغتهم وهويتهم.
جزء كبير من الدول العربية هي في هذا الواقع، وأولها وأكثرها تعدداً لغوياً هو لبنان، الذي تثبت الدراسات التاريخية انه كان ثنائي اللغة منذ عصور قديمة، وما زال حتى اليوم. لا بل اكثر، فقد اصبح ثلاثي اللغات، على أساس ان اللبناني يتعلم، الى العربية، اللغات الفرنسية والإنكليزية، وقد أفادت الأبحاث الجامعية، التي أجريت منذ بضع سنوات وشملت استطلاعات ميدانية، ان اللبنانيين بنسبة كبيرة هم ثلاثيو اللغة.
اما إذا اخذنا بعين الاعتبار ان بعضا من اللبنانيين هم من اثنيات متنوعة، اعتبرنا ان بعض اللبنانيين هم رباعيو اللغة.
لقد اخذت إشكالية تعدد اللغات في لبنان حيزا كبيرا من الجدل الفكري طيلة عدة عقود، واعتبر البعض ان اعتماد لغة اجنبية من شأنه ان يضعف استعمال اللغة الام، ولكن هذه النظرية لم تثبت صحتها على اعتبار ان اكتساب لغة يقوي معرفة اللغة الأخرى، بغض النظر عن أي هي الام واي هي المكتسبة. اما الانسان الذي تضعف عنده اللغة الام عند اكتسابه لغة اجنبية، فهو انسان لا يستسيغ من الأساس لغته الام او لم يتعلمها بالشكل المناسب.
لا بد لنا أيضا من التوقف عند استعمال اللبنانيين للغات الأجنبية، الفرنسية خصوصا والإنكليزية، مع أولادهم في حياتهم اليومية. إنك تسمع في الكثير من الأماكن العامة، مثل مرافق الرفاهية او التسوق، الاهل يخاطبون أولادهم بلغة اجنبية، وهذا امر نجده مستغربا، لا بل مستهجنا.
من الضروري ان يتعلم الانسان ما استطاع من اللغات، اذ يذهب القول الشعبي الى ان "كل لسان بإنسان"، ولكن لا لغة يمكنها الحلول مكان اللغة الام، لان فقدانها هو فقدان للهوية الوطنية وللذاكرة الشعبية. ان ما تعاني منه الأجيال الصاعدة في لبنان، وفي العالم عامة، اليوم هو ليس فقدان اللغة الام، بل فقدان الحس اللغوي عامة، اذ تجد عند الكثير منهم ركاكة في كتابة اية لغة، الاصلية او المكتسبة.
ان الاتكال على البرامج او التطبيقات الالكترونية قد اثر سلبا على اكتساب اية لغة في العالم، والدليل على ذلك نوعية الفرنسية والإنكليزية التي يكتبها الكثيرون من أبنائها على صفحات التواصل الاجتماعي. إضافة الى ذلك، أدى ادخال الرموز الالكترونية الى الاعتماد اقل على التعبير الكلامي والاكتفاء بالرموز التي تقدمها البرمجيات الالكترونية. انك لتشعر أحيانا انك في مغارة بدائية تحاول ان تفك رموزا قد نقشت على الجدران.
ان تعدد اللغات امر ضروري في كل مجتمع يريد التقدم، اذ يساعده ذلك على الاطلاع على الأبحاث والاكتشافات من مصدرها الأصلي، لان دون نقل كل جديد من لغة الى أخرى عقبات كثير، أولها الاستحصال على حق النشر، ثم الترجمة إضافة الى كلفة النشر وسرعة الانتشار. قد يستغرق هذه الامر سنوات تكون خلالها المعلومات موضوع الترجمة قد أصبحت قديمة ولم يعد استعمالها بنفس الجدوى كما في البداية.
في سياق متصل، لا بد لنا من التشديد على ضرورة حسن تعلم اللغة، اية لغة كانت، اللغة الام او اللغة الأجنبية لما في ذلك من تركيز للتفكير وحسن استعمال للتعابير والمفاهيم والصور الجمالية التي تزخر بها كل لغات العالم، اذ لكل واحدة منها جماليتها. لقد شدد اساتذتنا واهلنا على تعبير عربي معبر مفاده ان "من يحرم الاعراب بالنطق اختبل" تأكيدا على ضرورة حسن امتلاك اللغة مهما كان اختصاصنا، اكان في العلوم الإنسانية ام في العلوم الدقيقة. من دون لغة سليمة، وامتلاك لتعابيرها ومفاهيمها، سوف يبقى التعبير عن النفس منقوصا، وسوف يظهر الانسان وكأن أفكاره غير واضحة في وقت لا تنقصه الأفكار بل القدرة على التعبير عنها.