مجتمع الحداثة في تحدياته ومتناقضاته الاجتماعية الاقتصادية
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
لا شك ان المتناقضات التي نشهدها بشكل يومي في العالم الحديث، تشكل تحدياً على الانسان في القيم التي تربى عليها، والتي كان يفخر بها، والتي حددت مسار حياته.
ان التحولات التي بدأت مع الثورة الصناعية، وبزوغ العصر الكولونيالي الحديث، ما زالت تعصف بالشرية بزخم مرتفع، والتغيرات التي تسيطر على حياتنا بشكل يومي، هي أسرع واقوى من ان يعقلها الانسان او يستطيع التأقلم معها.
الانسان في الحداثة يدمر اليوم ما بناه البارحة، متذرعا بضرورة التغيير، وغير آبه بما يفعله ذلك بقيَمِه، واستقراره النفسي، وانسجامه مع محيطه، ومستقبله. الانسان في الحداثة لم يعد يعيش اية ضوابطَ، لدرجةِ يظهر وكأنه قد فقد مرجعيته ومعالمَ حياته.
ممتطيا صهوة الألة ومشتقاتها، ها هو يجتاح المعمورة بحثا عن موارد طبيعية، او أسواق جديدة، وهو يدمر في طريقه ما تيسر من مجتمعات وحضارات، ويُهَجّر شعوبا أو يبيدها.
في نفس الوقت، نقرأ من انتاج انسان الحداثة ما يحاكي الوجدان من كتابات ومبادئ، تُوَزِع قيما يمنة ويسرة على شعوب المعمورة، حتى لتكاد تسأل نفسك، هل هو نفس الانسان الذي قام بهذا وبذاك؟
النمو المدني، اوالتمدين او الاربنة (urbanization)، أدى الى غربة الإنسان عن اخية، وحول العلاقات الإنسانية الى علاقات غير شخصية (impersonal)، مُغفلة (anonymous)، بين اناس مجهولين، لا يعرفون بعضهم الا عبر مصالحهم. لقد أدى ذلك الى تقدم الانا الجامحة على أي شيء أخر في هوية الانسان، وانتج الخصوصية (privacy) التي ما فتئ مجتمع الحداثة يتغنى بها.
ولكننا نسأل، اين أصبحت هذه الخصوصية امام اجتياح وسائل التواصل الاجتماعي لحياة الناس وخصوصياتهم؟
البشرية اليوم تواجه منظومة الكترونية معلوماتية تحصي عليها أنفاسها. واذا ثمة قائل انه ما علينا سوى الانكفاء عن هذه المنظومة، ثمة من يجيبه ان من يخرج منها يصبح خارج المجتمع والتاريخ، لأنها صادرت كل العلاقات الاجتماعية، والمصالح، واعادت تنظيمها على طريقتها بشكل يجعل الانسان في حالة تبعية تامة لها، اما بالترغيب، عبر تسهيل حياته، او بالترهيب، عبر عزل الانسان او حصاره في حاجاته اذا "تمرد" عليها.
أظهرت إحصاءات اقتناء الأدوات الالكترونية التي يستعملها الناس في يومياتهم، تصاعدا متسارعا في حجم سوق هذه الآلات، وعدد مستعمليها. لقد دخلت ثقافة التواصل الاجتماعي حياتنا، وسيطرت على ثقافتنا، وأصبحت جزءا مكملا لنا في يومياتنا. حتى من ليس في حالة الضرورة لاستعمالها، أصبح يجدها مألوفة ويعرف إمكاناتها ويكلمك عنها حتى لو لم يكن يجيد استعمالها.
التناقض واضح اذا بين قيم الخصوصية التي اعتبرتها مجتمعات الحداثة عنصرا أساسيا مكونا لها، والاجتياح التام لهذه الخصوصية الذي تمثله منظومات المعلوماتية، رغم ضرورتها، وما القصة الساخرة عن غوغل عندما يقوم شخص ما بطلب الطعام، فيجد ان الجهاز المعلوماتي العالمي يعرف حتى نسبة الدهون في دمه، فينصحه بما لا يضره من المأكولات.
لقد سمع او قرأ الكثيرون حول مشروع زرع رقاقة الكترونية في جسم الانسان، تختصر كل عناصر هويته، بما فيها الصحية. وغدا لناظره قريب.
على صعيد أخر، قيم الحداثة تضطهد العائلة وتهمشها وتمنعها من القيام بدورها التاريخي المميز، الذي عبره استمرت البشرية لألاف السنين. وعندما حصل ارتداد الى العائلة في تسعينات القرن الماضي، تحرك باحثون ومفكرون وأحزاب ونقابات ضد هذا المنحى، ودبجوا المقالات يشجبون فيه عودة العائلة الى دورها، واعتبروا ان ذلك يلعب ضد تساوي الفرص بين الناس، في وقت كانت تلعب فيه العائلة دورا غابت عنه الدولة، وتراجع تكافئ الفرص بين الناس بشكل ملحوظ.
اما مقولة الإنتاجية، والتي اسميها حرب الإنتاجية، فقد احتلت الحيز الأكبر من ادبيات الاقتصاد، ومن أبحاث الاقتصاد الكمي (econometrics) للعقود الماضية، وأصبحت هذه الإنتاجية أداة داروينية اجتماعية – اقتصادية، تُخرج من ساحة الإنتاج من لم يستطع تأمين نسبة عالية منها، وترميه في سوق البطالة. اما المفارقة الكبرى في هذا السياق فهي ان من هم في الاستخدام يدفعون الضرائب التي بها تمَوَل تعويضات البطالة، ولو لفترة قصيرة، قبل تحول المتعطلين الى الهامشية الاقتصادية-الاجتماعية، فيقعون فريسة شتى أنواع الموبقات والامراض.
في خط مواز، تأتي مقولة الكفاءة الاقتصادية (economic efficiency) لتزيد الطين بلة، وتشفي غليل جشع المنشأت الإنتاجية الضخمة، التي لا تتورع عن القيام بأي تدبير، مقبول او غير مقبول، أخلاقي او غير أخلاقي، من اجل رفع فعاليتها الإنتاجية وتاليا ربحيتها. في هذا السباق المحموم، يكون المستهلك، في حالته الاقتصادية، وأحيانا الصحية، فريسة الجشع الذي ما فتئ ينتاب الشركات منذ الثورة الصناعية، ولمّا تنتهي مفاعيله بعد. ان تدني نوعية السلع، لدرجة الايذاء الجسدي للمستهلك، هي الوسيلة الفضلى، وقانون تناقص الحد الأخلاقي (loi de la morale limite décroissante)، في مجال المسؤولية الاجتماعية للمنشأة، هو الدليل على ذلك.
كل ذلك يُدخل مجتمع الحداثة في ثقافة مادية جامحة، لا تتراجع امام أي امر من اجل تأمين مصالح القيمين على الأمور.
يترافق ذلك مع بروز وصعود مجتمع الاستهلاك (الاستهلاكوية - consumerism) الذي رفع بشكل كبير جدا حاجات الاستهلاك عند الانسان، مما أدى الى اضرار شتى، أولها تبعية الانسان لنظام الاقتراض وخضوعه للمنظومة المصرفية، وتاليا استعباده بواسطة نظام الشراء بالتقسيط، مما انعكس على نفسيته واستقلاليته، وثانيها الضرر الذي لحق بالبيئة لدرجة ان بعض علماء الاجتماع، اخترعوا فرعا سموه علم اجتماع سلة القمامة (sociologie de la poubelle)، التي تُظهر تعقد حياة الانسان الحديث وبؤسه في رفاهيته.
على صعيد اشمل، لا بد لنا من التوقف امام أنظمة الحماية الاجتماعية، ومستواها في الغرب، خلال فترة وجود أنظمة الاشتراكية، وكيف تحولت بعد ذلك الى منظومات بفعالية متدنية.
يوقن المراقب البصير كيف ترافق انهيار المنظومة الاشتراكية – ولا سبيل الى التوقف عند الأذى الذي الحقته بشعوبها - مع تراجع شبكات الأمان الاجتماعي في دول الحداثة، وما السياسة الاجتماعية المتبعة في فرنسا حاليا، على سبيل المثال لا الحصر، وغيرها من دول الحداثة، سوى الدليل القاطع على ذلك. في نفس الوقت، ترافق انحسار الأنظمة الاشتراكية مع انفصام طبقي على الصعيد العالمي، تُظهره بوضوح الاحصائيات العالمية منذ سنة 1991. كل ذلك ان دل على شيء، فانه يدل على نفاق الأنظمة الاولترا ليبيرالية، وانقضاض الممسكين بزمامها على الفئات المستضعفة في المجتمع. في هذا السياق، شكل تصاعد ريادة الاعمال خشبة خلاص للأنظمة الحرة وساعد في الحفاظ على الطبقة الوسطى، ولكن شبح التركيز الاقتصادي الذي يؤدي الى الاحتكار وهيمنة الشركات العملاقة، والتي تزداد سطوة مع حركات الدمج، يبقى جاثما على صدر هذه الظاهرة الانقاذية التي تشكلها ريادة الاعمال.
لا اقصد بكلامي ان الأنظمة الاشتراكية كانت الحل، ولقد اساءت كثيرا الى المجتمعات التي تحكمت بمصيرها عقودا طويلة، ولكنها شكلت عنصر التوازن والتحدي لليبيرالية الجامحة التي، بعد سقوطها، لم تتأخر عن القيام بتشريعات وسياسات اجتماعية قاتلة.
ان الحرية الاقتصادية، كما كل الحريات، ضرورية من اجل التقدم، ولكنها تحتاج الى ضوابط تتكيف مع التحولات في مجتمعات الحداثة ذاتُ الدينامية السريعة.
اما الواصل حديثا الى عالم التهافت القيمي على الصعيد الاقتصادي، فهو ما يسمى اليوم المسؤولية الاجتماعية للمؤسسات الإنتاجية (corporate social responsibility - CSR) .