الاشراك في الحياة والأخوة الإنسانية

 دور مجلس كنائس الشرق الأوسط نموذجا

ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس هذه الكلمة في لقاء الأخوة الإنسانية: مسيرة ومشاركة، يوم السبت 3 شباط/ فبراير 2024، في قاعة الزهراء-حارة حريك، لبنان.

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

تزخر ادبيات الحوار بمفردات لعبت دورا كبيرا في تقريب العقول وتألف النفوس بين الناس عندما جرى استعمالها في سياق حل النزاعات واطفاء العداوات بين البشر. ولكن هذه المفردات، بعد ان قامت بالدور المناط بها لحقبة معينة، أصبحت لا تفي بالغرض المفاهيمي والعملي الذي نحتاجه في المرحلة الحالية، حيث الاختلاط البشري وصل الى اوجه، مترافقا مع عداوات متصاعدة بين الشعوب والاقوام والأديان والمذاهب، ومترافقا أيضا مع خطاب كراهية لم يكن ينقصه سوى وسائل التواصل الاجتماعي لكي يبلغ أوجه ويتحول الى سم زعاف والى أداة فرقة بامتياز.

هذه المفاهيم الجميلة وقتها، اضحينا نكتشف، نحن العاملين بالحوار، كم انها تحمل في طياتها بذور شقاق، بينما نستعملها نحن كوسيلة الفة، والحق يقال ان اجتراحها في تلك المرحلة لم يكن الا عن حسن نية، ولكن الأفق المفاهيمي والميداني لم يكن يتطلب اكثر من ذلك.

التعايش السلمي، بين الأديان او الجماعات، مثلا، ينبينا ان هناك وضع توازن قائم بين هويات متنوعة، ولكن هذا التوازن يمكن ان يختل في اية لحظة يتدخل فيها عامل خارجي على التوازن او يقوم احد فرقاء التوازن-التعايش بخطأ ما، مما يؤدي الى ما لا تحمد عقباه.

التسامح، الديني خصوصا. يخبرنا هذا المفهوم ان احد فرقاء هذا الوجود السلمي، او جميعهم، يسامحون بعضها البعض، او ان احدهم يسامح الاخر، على اختلافه عنه في الدين، وكأن هذا الامر مرفوض وقد يستوجب العقاب. اما إذا قرر أحد او جميع المتسامحين مع بعضهم البعض الإقلاع عن هذا التسامح او وضع حد له، فالويل والثبور وعظائم الأمور لهذا الامة، اذا بقى منها من ينبينا عما جرى.

العيش المشترك. هذا مفهوم متقدم عن الذين سبقوا، اذ يعتبر ان الاشتراك في امر ما، العيش هنا، هو امر إيجابي، رغم ان حدود الاشتراك هي العيش، أي الأمور الضرورية الدنيوية وليس الحياة المشتركة التي عبرها يشترك الناس بالحياة المادية كما بالقيم والمثل العليا والتطلعات.

من جهة أخرى، فان تعبير "الأخر" لا يقل ضررا عن باقي التعابير اذ يضع الانسان في غربة مع من هو اخاه في الدين او شريكه في الإنسانية.

اما أسوأ ما يمكن استعماله فهو التعبير اللاتيني الذي يستعمله الكثير من الكتاب حول الوحدة الاجتماعية والاخوة الإنسانية (modus vivendi) وهو يعني تسوية مؤقتة، ولهذا المفهوم فعل سلبي لا حدود له.

والأخطر من كل ما سلف هو اختيار المتغير الديني في توصيف الافراد او الجماعات، كأن نعلن دين او طائفة انسان ما نريد الإشارة اليه، او ان نقول اننا كلنا مسيحيون ومسلمون مثلا، نؤيد او نشجب امرا ما مطروح للنقاش او التداول، بدل ان نقول شيبا وشبانا، متعلمين واميين، نساء ورجالاً، مقيمين ومغتربين، الخ.

في كل ما نكتب، لا بد لنا ان نستعمل تعابير تقدم المعية والتفاعل على الفروقات والانقسام، كأن نقول الاشتراك في الحياة، الذي يولد قيما مشتركة، تضاف الى الضرورات الحياتية، او التناضج، او التفاعل او التنافذ (osmose) او التكافل (symbiose) او غيرها من التعابير او المفاهيم التي تكون مفتاحا ل “معية اجتماعية"، (social togetherness) تحذف التعابير التي تحمل في طياتها منطق الانقسام والفرقة والتنابذ.

لا بد للمراقب المتبصر ان يوقن، لا بل يؤكد، ان الجماعات البشرية التي تحيا حياة مشتركة لعدد كبير من السنوات سوف ترى ان هذا الاشتراك في الحياة الاجتماعية الثقافية الواحدة قد ولّد منها مجتمعا موحدا على جميع الصعد، حتى الصعيد الديني، على ضوء التفاعل الذي يجري بين الناس في حياتهم اليومية وفي السير وراء مصالحهم. ان ديانتكم هي حياتكم اليومية يقول جبران خليل جبران. في الحياة الاجتماعية الموحدة تأتي الاخوة الإنسانية بالسليقة وتصبح طبيعة ثانية لدى الناس، وينتج عنها تضامن انساني يكون من أرقى ما يمكن ان تصبو اليه الانسانية.

في هذا السياق، تشكل وثيقة الاخوة الإنسانية علامة فارقة في ادبيات السلم الاهلي والوحدة الاجتماعية، اذ هي تتكلم:

- باسمِ الله الَّذي خَلَقَ البَشَرَ جميعًا مُتَساوِين في الحُقُوقِ والواجباتِ والكَرامةِ،

- باسمِ النفسِ البَشَريَّةِ الطَّاهِرةِ التي حَرَّمَ اللهُ إزهاقَها،

- باسمِ الفُقَراءِ والبُؤَساءِ والمَحرُومِينَ والمُهمَّشِينَ الَّذين أَمَرَ اللهُ بالإحسانِ إليهم ومَدِّ يَدِ العَوْنِ للتَّخفِيفِ عنهم،

- باسمِ الأيتامِ والأَرامِلِ، والمُهَجَّرينَ والنَّازِحِينَ من دِيارِهِم وأَوْطانِهم

- باسم كُلِّ ضَحايا الحُرُوبِ والاضطِهادِ والظُّلْمِ،

- باسم المُستَضعَفِينَ والخائِفِينَ والأَسْرَى والمُعَذَّبِينَ في الأرضِ، دُونَ إقصاءٍ أو تمييزٍ

- باسمِ الشُّعُوبِ التي فقَدَتِ الأَمْنَ والسَّلامَ والتَّعايُشَ،

- باسمِ «الأُخُوَّةِ الإنسانيَّةِ» التي تَجمَعُ البَشَرَ جميعًا، وتُوحِّدُهم وتُسوِّي بينَهم

- باسم تلك الأُخُوَّةِ التي أرهَقَتْها سِياساتُ التَّعَصُّبِ والتَّفرِقةِ، التي تَعبَثُ بمَصائِرِ الشُّعُوبِ ومُقَدَّراتِهم، وأَنظِمةُ التَّرَبُّحِ الأَعْمَى، والتَّوَجُّهاتُ الأيدلوجيَّةِ البَغِيضةِ

- باسمِ الحُرِّيَّةِ التي وَهَبَها اللهُ لكُلِّ البَشَرِ وفطَرَهُم عليها ومَيَّزَهُم بها

- باسمِ العَدْلِ والرَّحمةِ، أساسِ المُلْكِ وجَوْهَرِ الصَّلاحِ

- باسمِ كُلِّ الأشخاصِ ذَوِي الإرادةِ الصالحةِ، في كلِّ بِقاعِ المَسكُونَةِ

- باسمِ اللهِ وباسمِ كُلِّ ما سَبَقَ، تَبنِّي ثقافةِ الحوارِ دَرْبًا، والتعاوُنِ المُشتركِ سبيلًا، والتعارُفِ المُتَبادَلِ نَهْجًا وطَرِيقًا

المهم في هذه الوثيقة انها قاربت المجموعات البشرية من منطلق انساني بحت، حيث انها شملت كل الجماعات المعرضة والمستضعفة في تقديمها للأخوة الإنسانية.

اما اللافت للنظر في الوثيقة فهو اعتماد تعبير "ثقافة الحوار" وليس فقط "الحوار". ثقافة الحوار بالنسبة الينا، في مجلس كنائس الشرق الأوسط، كما كنا في اللجنة الوطنية الإسلامية المسيحية للحوار، تعني ان الحوار يصبح نهج حياة وانه لا يصل الى هدف فيقف عنده وتطفأ محركات الحوار. الحوار بحد ذاته هو هدف، لأنه وسيلة تفاعل الناس مع بعضها البعض، ليس فقط في شؤون الحياة الكبرى، ولكن في كل شاردة وواردة في حياتنا اليومية. هل نلاحظ كم يقاطع الناس بعضهم بعضا ولا يستمعون الى بعضهم خلال نقاش امر ما؟ هل تلاحظون كم ان هناك من الناس من لا يجيدون الاستماع لما يقوله محاورهم؟ هنا يصبح الحوار وسيلة تناضج متبادل وطريقا للوحدة الاجتماعية.

نحن في مجلس كنائس الشرق الأوسط تاريخنا في الحوار، والاخوة الوطنية والإنسانية، كما دورنا في تحفيز التفاعل والالتقاء بين الجماعات المكونة للامة، عريق جدا، لا بل ان المجلس قد تأسس على قيم أساسية هي في هذا الخط:

- تعميق الشركة الروحية بين كنائس الشرق الأوسط وتوحيد كلمتها وجهودها

- التعاون والعمل المشترك في سبيل الخدمة الإنسانية وتحقيق العدالة والدفاع عن حقوق الإنسان وتعزيز الحضور المسيحي للتمكن من الثبات بحرية وسلام ومساواة في المواطنة والحقوق والواجبات

- تنمية ودعم الحوار المنظم الهادف إلى الفهم المتبادل لتعزيز وترسيخ السلام والألفة بين الشعوب من اجل خير الإنسانية

خلال تاريخه الطويل، وهو قد أصبح في سن الخمسين بشكله الحالي، وفي سن الخامسة والثمانين إذا احتسبنا سنوات التفاعل التي سبقت تأسيسه، بر المجلس بكل هذا الأهداف-القيم، اكان عبر العلاقات التي بناها مع مختلف مؤسسات المشرق الانطاكي ووادي النيل وإيران والمغرب العربي، ام عبر علاقاته الدولية. إذا كانت المسكونية هي مسار وحدة بين المسيحيين، فهي من باب أولى، مسار وحدة اجتماعية بين جميع مكونات المجتمع، وتاليا خريطة طريق للأخوّة بين البشر.

اما الامر المهم الذي لا بد من التوقف عنده، فهو تجلي الاخوة الإنسانية في الخدمات الاغاثية والتنموية التي ما فتئ يقدمها المجلس منذ حرب فلسطين وحتى اليوم في كل دول المنطقة، مقدما الدعم الحياتي المباشر وصولا الى الاسناد التنموي الطويل الأمد في أية منطقة استطاع الوصول اليها او العمل فيها. لقد كلفه ذلك الكثير من الانتقادات ذات الطابع التمييزي، ولكنه رغم ذلك فقد صمد في هذه الطريق وما برح فيها.

ما يجدر ذكر أيضا هو اطلاقنا، منذ انتدابي الى خدمة الأمانة العامة، برنامجا يعنى بالحوار والتماسك الاجتماعي، يهدف أيضا الى إعادة تأهيل الكرامة الإنسانية والرأسمال الاجتماعي – القاعدة المجتمعية للأخوّة بين البشر - وقد بدأناه بسلسلة محاضرات وندوات بلغت العشرين لتاريخه، وكلها تتعامل مع مواضيع لها علاقة بالأخوة الإنسانية والوحدة الاجتماعية وتأهيل بناها. في سياق متصل، نرى ان برنامج موسم الخليقة البيئي، الذي ننفذه منذ ثلاثة سنوات، قد اعطى ثمارا جمة على صعيد حملات التوعية، كما على صعيد حملات التشجير، وكلا البعدين في العمل البيئي يتوسعان تدريجيا ليطالا مناطق اضافية من الشرق الأوسط.

إضافة الى ذلك، لقد دأبت منذ انتدابي للخدمة كأمين عام، الى كتابة مقالة في نشرتنا الأسبوعية، وقد فاق عددها المئتين حتى اليوم، وكلها موجهة نحو الحوار والتأخي بين الناس ونحو شرح موقف المجلس وكنيسة الشرق الأوسط من الأمور المطروحة في يومياتنا، ومن نافلة القول ان التوجه العام هو نحو الحوار والتأخي.

في نهاية كلمتي، اسمح لنفسي ان اشارككم محصلة خبرتي عبر المجلس كما عبر التدريس الجامعي، واختصرها بتعبير واحد: العمل معا!

عندما تأخذ الشعوب على عاتقها مواجهة تحدياتها، والعمل معا من اجل معالجة هذه التحديات، من أي نوع كانت، تتوحد وتسير بخطى وئيدة، ولكن اكيدة، نحو الاخوة في المجتمع، ومنها نحو الاخوة في الإنسانية. اما عكس ذلك، فينطبق عليه القول المبارك المأثور: يا هذا، ان الله جعل الايدي لتعمل، فان لم تجد في الطاعة عملا، التمست في المعصية اعمالا، فاشغلها بالطاعة قبل ان تشغلك بالمعصية.

هل هناك معصية أكبر من الانقسام والفتنة التي نقول عنها انه ملعون من أيقظها؟

حارة حريك، 03.02.2024

Previous
Previous

مومنتوم أسبوعيّة إلكترونيّة من مجلس كنائس الشرق الأوسط

Next
Next

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس يلقي محاضرة ضمن سلسلة "حلقات تفكير"