المسيحيون والاضطهاد والحرية

خمسون

د. ميشال أ. عبس

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط

لمناسبة أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيّين في مصر، شارك الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال أ. عبس في صلاة افتتاح هذا الأسبوع برئاسة قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة، حيث ألقى خلالها كلمة بعنوان "خمسون". وفي بدايتها توجّه د. ميشال عبس إلى قداسة البابا تواضروس الثاني بكلمة محبة وتعزية عقب الاعتداء الّذي تعرّض له، يوم الاثنين 12 آذار/ مارس 2024، ثلاثة من رهبان الكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة في دير القدّيس مار مرقس الرسول والقدّيس الأنبا صموئيل المعترف بچوهانسبرج في جنوب افريقيا.

قداسة البابا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية الجزيل الاحترام، 

أصحاب الغبطة الجزيلي الاحترام، 

أصحاب السيادة الجزيلي الاحترام، 

حضرات القساوسة المحترمين، 

حضرات الإباء المحترمين، 

أيها المؤمنون المجتمعون على المحبة والايمان، 

  

المسيحيون والاضطهاد والحرية

من المحاكمة والجلد وطريق الجلجلة فالصلب والقيامة الى رمي المسيحيين طعاما للضواري الى اقتلاعهم من ديارهم، الخط واحد، مستقيم، لا تعرج فيه ولا لبس لا في فهم مساره ولا في تأويله.

تاريخ المسيحية منذ نشؤها وعبر تصاعدها، طريق محفوف بالمخاطر والتضحيات والشهادة على طريق القيامة. ان ازكى الشهادات هي شهادة الدم.

على خطى السيد المتجسد الذي فدانا بمجيئه، ما برح المسيحيون يسيرون في كل بقاع انتشارهم. يبلسمون الجراح ويأتي من يجرحهم، ينشرون العلم فيغتالهم الجهلة، يكرسون الحرية فيطعنون من ممتهني العبودية، يضيئون ليل العالم فتأتيهم الظلامية لكي تقضي عليهم.

أما آن لهذا الليل ان ينجلي؟

الرهبان الثلاثة الذين قتلوا في جنوب افريقيا يشكلون اكليل غار إضافي في درب نشر رسالة المحبة والسلام.

لا يسعنا ان نقول لكنيستهم، لأهلهم، لمجتمعهم وللإنسانية الا: المسيح قام.

خمسون 

"لَمَّا حَلَّ يومُ الخَمسينَ، كانَ الرُّسُلُ كُلُّهُم مَعاً في مكانٍ واحد" (أع 1:2) 

 

هذه الآية هي الشعار الذي اتخذه مجلس كنائس الشرق الأوسط في ذكرى تأسيسه الخمسين، وقد صممه فريق العمل، مع دائرة التواصل في المجلس، بشكل يدمُج سنة الخمسين بشعار المجلس المعروف من الجميع، تضاف إليهم الآية – الشعار ونجومٌ أربعة، تيمنا بالعائلات الأربعة التي يتكون منها المجلس.  

لقد كان مباركا ذلك اليوم الذي اجتمعت فيه بيعة السيد، في جزيرة قبرص، نجمة المتوسط، في مايو 1974، لتعلن انها توافقت على توطيد العلاقات بين مكوناتها، في مؤسسة أجمعت على تسميتها مجلس كنائس الشرق الأوسط. لقد كانت هذه المرحلة ذروة مسارٍ استمر عقوداً بُذلت خلالَها جهود حثيثة من مجموع كبير من القيادات الكنسية ومن المؤمنين الخُلّص، النيرين، الذين يتوقون الى رؤية عمل مسيحي مشترك، يسمى العمل المسكوني. 

يومها، ايقن القيمون على الأمور جدية ما هم قادمون عليه، فوظفوا ما اوتوا من طاقة ودراية في تنظيم هذه المؤسسة الناشئة، الواعدة، وكرّسوا وقتهم للعمل على القيام بكل ما يؤمن استمرارَها ونجاحَها، وكان الأمين العام الأول من مصر، من ارض النيل، من بيت العائلة المقدسة. 

لقد ضم المجلس آنذاك ثلاث عائلات كنسية، ومن ثَم، انضمت العائلة الرابعة الى المجلس في التسعينات، وأصبح مكونا من العائلات الارثوذكسية الشرقية، والارثوذكسية، والانجيلية، والكاثوليكية.  

خلال الفترة التي تفصلنا عن مرحلة التأسيس، مر المجلس بمراحلَ وتحولاتٍ كثيرةٍ، على صعيد البرامج والاهتمامات والبنية التنظيمية، كما تأثر خلال تلك الفترة بالتحولات الإقليمية والدولية التي انعكست عليه، ولكنه استطاع الاستمرار بفضل القيمين عليه، من رؤساء وامناء عامين ومشاركين. 

على صعيد البنية التنظيمية، المجلسُ مكون من جمعية عامة تلتئم كلَ اربعة سنوات، او عندما تدعو الحاجة، فتتلقى تقارير الإنجازات وتناقشُها، وتقر توجهات مستقبلية يقدمها لها فريق العمل بعد التشاور مع اللجان المختصة، وبعد موافقة اللجنة التنفيذية، كما تعمَد الى انتخاب لجنةٍ تنفيذيةٍ وامينٍ عامٍ للسنوات الأربعة التالية. بدورها، تقوم اللجنة التنفيذية بتعيين ثلاثة أمناء عامين مشاركين من العائلات الكنسية الثلاثة التي ليست عائلة الأمين العام. في السنوات الثلاثة الماضية شهد المجلس استعادةً لدور الأمناء العامين المشاركين التاريخي، في سياق إرساء نظام اخذ القرارات بأوسع تشاور ومشاركة. 

المجلس في سنته الخمسين، مؤسسةٌ متقدمةٌ على صعيد البرامج، حيث انه يتعاطى مع حاجات متنوعة، تبدأ بالإغاثة في حالات الطوارئ، وصولا الى مشاريع التنمية التي تشمل التدريب والدعم المهنين، في المجال الحرفي والزراعي وغيرهم من المجالات الضرورية لتأمين الدخل للأسر الأكثرَ حاجةً. كما تشمل برامجه التوعية على الحقوق، والتوعية الصحية، والمساعدة على الشفاء من الصدمات وحماية البيئة، والندوات التي تُعنى بالكرامة الإنسانية، والحوار الاجتماعي وغيرها من وسائل بناء الرأسمال الاجتماعي. إضافة الى كل ذلك، اهتم المجلس بترميم الأبنية والمؤسسات الكنسية، ورمم البيوت المتضررة من جراء الزلزال الذي ضرب المنطقة العام الماضي. والجدير ذِكره ان هناك مشاريع كثيرة هي برسم التحضير وسوف ترى النور قريبا.  في كل ذلك، يجسد مجلس كنائس الشرق الأوسط قيم ومثال السامري الصالح. 

المجلس في سنته الخمسين هو أيضا مؤسسة متقدمة على صعيد التنظيم والإدارة، حيث يجري بناء قدراته الإنسانية عبر التدريب والتعليم، ويقوم في نفس الوقت بتطوير اساليبه الإدارية والمالية عبر تنمية تنظيماته الاجرائية الداخلية وتجديدها، تماشيا مع ما يجري في العالم في مجال تنظيم وإدارة الهيئات الدينية-الاهلية واستجابة لمتطلبات الهيئات الدولية الشقيقة. في نفس الوقت، يجري تجديد نظامه المحاسبي، توخيا للسرعة والفعالية في العمل المالي والمحاسبي، توصلا الى كفاءة مالية عالية. 

في كلا المجالين، البرامجي والإداري-المالي، يُظهر المجلس فعالية وشفافية رفيعتين، مما يعطيه مصداقية عالية لدى الشركاء الدوليين، الكنسيين وغير الكنسيين منهم، بدليل توافدهم الى التعامل معنا واعطاءَنا أولوية في برامجهم ومشاريعهم. 

كل ذلك يقود الى ان تتكون في المجلس ثقافةٌ مؤسساتيةٌ جديدة، كانت قد تراجعت على ضوء التغيرات التي حصلت على صعيد الفريق العامل، وكلنا يعلم ان ثقافة المؤسسات تجد ضمانتها واستمراريتها في استمرارية الافراد الذين هم وعائها وذاكرتها التاريخية. 

المجلس اليوم متواجد في دول أربعة من الشرق الأوسط، ويتوق الى العودة الى دولٍ كان متواجداً فيها ولم يعد، وكنائسنا لم تبخل يوما على المجلس لا بالاستضافة ولا بالدعم، وهذا امر يعرفه القاصي والداني، خصوصا شركاؤنا الدوليون. 

أصحاب القداسة والغبطة والنيافة والسيادة والاحترام، 

هذا هو وضع مجلسكم في سنته الخمسين، وإذا كان لا بد من تهنئة، فهي تكون منا لكم، لاستمراركم معا في هذه المؤسسة لنصف قرن رُغم الصعوبات التي مرت بها المنطقة والمؤسسة على حد سواء. 

ان الروح المسكونية تتجلى بوجودكم معا، وآخر ما شهدناه من تجلياتها كان في شهر مايو/أيار 2022، حيث عُقدت جمعية عامة في مركز لوغوس البابوي – دير الانبا بيشوي، في وادي النطرون، بعد غياب دام ست سنوات بسبب الجائحة، وقد توجت هذه الجمعية العامة الثانية عشرة الخمسين سنة الأولى من عمر المجلس.  

هذه الروح المسكونية، والثقافة المسكونية المشتقة منها، مهما كان رأيُ البعضُ فيها، هي في مسارٍ متقدم، بزخم، قد يتغير تبعا لبعض الظروف، ولكنها لم تشهد قطعا ايةَ انتكاسةٍ. 

اما بالنسبة الى السنة الخمسين، التي تسمى اليوبيل الذهبي، ونحن نكتفي بتعبير السنة الخمسين، فقد شددت اللجنة التنفيذية على ان تكون سنة تقييمٍ وتفكيرٍ وتأملٍ واستشراف، بعيدا عن البهرجة او ايةِ مظاهرَ لا نجدها مناسِبة، ولحسن تدبير الأمور الرباني، ان فريق العمل كان في نفس الاتجاه، وهكذا حصل. 

لقد شكلت اللجنة التنفيذية لجنة خاصة من بين اعضائها، لتنظيم برامج السنة الخمسين، فاجتمعت الى فريق العمل عدة مرات، وجرى انتاجُ اطارِ برنامجٍ للسنة الخمسين، اقرته اللجنة التنفيذية، وقد عممناه على قيادات الكنائس. 

يشمل البرنامج-الإطار أبواباً أربعة، هي: 

1-   الصلوات ولقاءات الترانيم الروحية - 2- المحاضرات والندوات 3- نشر مواد إعلامية 4- المطبوعات 

الباب الأول يشمل أسبوع الصلاة من اجل الوحدة، وقد اخترنا ان نطلق أنشطة السنة الخمسين خلال هذا الأسبوع، وقد حضرت الى مصر لحضور افتتاح صلوات أسبوع الوحدة في هذا السياق.  

ضمن هذا التوجه، دخل المجلس شريكاً في الحدث المسكوني الذي جرى في بيروت في يناير/كانون الثاني الماضي. كما يشمل هذا الباب أيضا اقتراحَ امسياتِ صلواتٍ مسكونيةٍ في أكثرَ من دولةٍ في منطقة الشرق الأوسط، حسب توفر الإمكانيات البشرية والعملانية. كذلك سوف نقيمُ أمسيةَ ترانيمٍ مختلطة قبيل نهاية السنة الحالية. يهدف المجلس من هذه الامسياتِ المسكونيةِ والمختلطة تدعيمَ اللحمةِ بين الناس، واذكاء القيم المشتركة، التي أساسُها عبادة الرب الواحد، خالقُ هذه الكون وباري الخليقة. 

الباب الثاني مكون من ثلاثةِ فصول سوف يجري ضمنها عقد الندوات وإلقاء المحاضرات، وهي الحضور والشهادة المسيحيين، الحوار المسكوني والأسئلة الوجودية، والرؤية والتطلعات المستقبلية. في هذا السياق سوف يحضر الى لبنان الأمين العام لمجلس الكنائس العالمي، في أواخر شهر آذار/مارس، وسوف يشترك في ندوة حول المسكونية في الشرق الأوسط والعالم، كما سيقوم بزياراتٍ الى قياداتِ الكنائس المقيمين في لبنان. إضافة الى ذلك، سوف يتطرق محاضرون ومنتدون في نشاطات تجري برمجتها، في كل دولة على حدة، وبالتنسيق مع الكنائس الأعضاء في المجلس، الى مواضيعَ مختلفة تدخل تحت هذا الباب الثاني، ومنها أربع محاضرات للأمين العام حول المجازر الكبرى في الشرق الأوسط. 

اما الباب الثالث، فيتعلق بالإعلام والإنتاج السمعي البصري. نحن بصدد التحضير لإنتاج اشرطةٍ وثائقيةٍ تغطي مختلف نشاطات المجلس خلال مختلف مراحله التاريخية، رغم صعوبة تحويل الأشرطة القديمة الى وثائق يمكنُ قراءَتها بواسطة البرمجيات الحديثة، وهو عمل قد تطوعت تلي لوميير- نورسات للقيام به مشكورة. في نفس السياق، أطلقنا برنامجا مشتركا مع تلي لوميير، اسميناه "مسكونيات"، يتعاطى مع تاريخ وتطور الحركة المسكونية في المنطقة، ودورُ مجلس كنائس الشرق الأوسط في هذا المسار، عبر مقابلات مع مرجعيات دينية وعلمانية اضطلعت بدور قيادي في تطور الحركة المسكونية في منطقتنا، وسوف يصبح هذا البرنامج ثابتا من ضمن شبكة برامج تلي لوميير.  

بالتوازي مع ذلك، سوف نطلق، بالتنسيق مع نفس المحطة، برنامجا تلفزيونيا اخباريا أسبوعيا، حول نشاطات المجلس والحركة المسكونية.  

لا بد ان نذكر هنا، في السياق الإعلامي، اننا بصدد إطلاقِ شراكاتٍ جديدة، واقتراح هيئاتٍ تنسيقيةٍ بين المؤسسات الإعلامية الكنسية، على غرار الاتيميه في المجال اللاهوتي، توخيا لان يكون السراج في اعلى القمم.  

الباب الرابع مكون من نشاطين أساسيين، الأول كتاب الخمسين عام (Album) الذي يعرِضُ تاريخ المجلس خلال السنوات الخمسين التي مضت، ويشمل الجمعيات العامة واللجان التنفيذية، والقرارات والبيانات، وغيرُها من المعلومات التي توثق بالصور والنصوص، للنصف الأول من المئةِ سنةٍ الأولى للمجلس، المتوقع منه ان يستمر بمسيرته لعقود عديدة قادمة من اجل الاضطلاع بالمهام التي حمّله إياها المؤسسون الرؤيويون، كما القياداتُ الحديثةُ التي جددتِ الرؤيةَ والتطلعات. 

اما النشاط الثاني في هذا الباب، فهو كتيبُ تعريفٍ بالمجلس، وهو وثيقة حول تأسيسِ المجلسِ وبنيتِهِ ونشاطاتهِ والكثيرَ من المعطيات التي تشرح للعامة والمهتمين، ما هو المجلس كمؤسسة وكمجتمع.  

هذا هو الإطارُ العام الذي ستجري ضمنه انشطةُ السنةِ الخمسين. من نافلة القول، ان العمل في الأمانة العامة والدوائرَ والاقسامَ سوف يستمر كالعادة، لأننا قد برمجنا الأمورَ بطريقةٍ تدمُجُ أنشطة هذه السنة، بشكلٍ تلقائيٍ، ضمن العملِ اليومي العادي، علما اننا نتحضر لإطلاقِ برامجَ ومشاريعَ جديدة، استجابةً لحاجاتٍ متصاعدةٍ ولشراكاتٍ جديدة نعقِدها مع مؤسسات دولية، مسكونية أوغير دينية، تتوجه الينا أكثر فأكثر طلباً للشراكة، نظرا للمصداقية التي يحظى بها المجلسُ بجهودِ فريقه الذي يعمل بلا كللٍ ولا ملل، كما برعاية قياداته التي تدعم هذا العمل وتؤطره. 

لقد بدأت السنة الخمسون في كانون الثاني/يناير 2024، في أسبوع الصلاة من اجل الوحدة، وقد برمجنا لها ان تنتهي في كانون الثاني/يناير من العام 2025، مع بداية السنة ال 1700 لمجمع نيقية. عندها، تبدأ أنشطةٌ جديدةٌ مرتبطةٌ بهذه المناسبة الهامة في تاريخ المسيحية. 

في كل ذلك، ومن اجل خدمة الانسان باسم المخلص، نطلب بركاتَكم ودعمَكم، لكي يرعانا الرب ويساعدنا على أداء الخدمة الفضلى. 

 

Previous
Previous

الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط الدكتور ميشال عبس ينضم الى اجتماع اللجنة التنفيذية التابعة لسينودوس النيل الإنجيلي-القاهرة

Next
Next

تابعوا الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط د. ميشال عبس في حلقة خاصّة على قناة "الكرازة" في مصر