العرض الأولمبي الفرنسي، النقطة التي افاضت الكأس
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
اثار العرض الأولمبي الفرنسي، الذي لن ندخل في تقييمه على الصعيد الفني هنا، موجة عارمة من ردود الفعل تراوحت بين الشجب والاستنكار والتهجم والنعوت الغاضبة على كل من اشترك في التخطيط والاعداد والتنفيذ لهذا العمل، ولم تسلم القيادات الحكومية العليا من الإشارة اليها بأصابع الاتهام كونها، في المحصلة، هي التي اجازت هذا العمل.
يشهد العالم منذ عقود تطاولا على المسيحية يمر دون رد، ولا حتى ملاحظة من القيادات المعنية، انطلاقا من قيم الحريات التي يتشدق بها بعض الغرب، كما من قيمة التسامح المسيحي، القائم أساسا على المحبة وعلى سيرة يسوع ووصاياه. نعم نحن نحب اعداءنا، ونبارك لاعنينا، ونحسن لمن اساء الينا، براً بوصايا السيد. لذلك تمادى الاعلام الغربي، وشركات الإنتاج السينمائي، وبعض الصحافة، وبعض متحذلقي الرسم الكاريكاتوري، وبعض الأحزاب، وبعض من يسمون أنفسهم مثقفين، فتطاولوا على الرسالة المسيحية التي هي أساس صون الحريات التي يتمتعون بها، وامعنوا فيها تشنيعا وتهشيما بشتى الطرق، دون وازع أخلاقي ولا حسيب ولا رقيب.
انه ذروة العقوق!
ان تكتب مقالا او دراسة، او تلقي محاضرة، تحلل او تنتقد عبرها بعض من تعاليم او مقولات الأديان، او ان تقيّم تأثيرها على الناس في سلوكهم وتعاملهم مع بعضهم البعض، هو امر محترم ويجري تداوله بين اختصاصيين يحترمون أفكار الصراع الفكري. اما ان تمارس التسخيف والاستهزاء بحق الدين، أي دين، فهذا امر تخطى الحدود المقبول بها في التعامل الحضاري بين البشر.
ان تنتقد بشكل محترم امر، وان تضع رموزا مقدسة لفئة من الناس، مهما كبر او صغر شأنها، في إطار تحقيري او تشويهي، فهذا امر آخر.
كم مرة وضعت المسيحية في أوضاع مهينة في أفلام رخيصة انتجها ممول حاقد ونظمها مخرج موتور؟ كم مرة جرى التعامل مع مقدسات المسيحيين بشكل مهين في الأفلام والمسلسلات، تارة بشكل مباشر وطورا بشكل غير مباشر؟ هل هذا امر مقبول؟
نحن في زمن الحريات وقبول التنوع، مهما كان معتقد او موقف الآخر بعيدا عن تفكيرنا. نحن في زمن تعايد الناس بعضها البعض في مناسبات لا تعني لها شيئا، فقط لان الصديق، او الزميل، او الجار، او الشريك في الوطن تعني له شيءً.
عندما تكون البشرية قد أصبحت تتفاعل مع بعضها في هذا الإطار القيمي، هل من الممكن او المعقول او المستحب ان يحصل شيء كما حصل في افتتاح الألعاب الأولمبية في باريس، عاصمة الثقافة والحريات؟
ان ما جرى في حفل الافتتاح هذا يختلف جذريا عما كان يرد في الأفلام الرخيصة او المغرضة التي ذكرناها أعلاه.
ما جرى في هذا الحفل، هو أولاً، ضرب لقيم الألعاب الأولمبية والرياضة في الصميم، اذ شكل تعد صارخ على المبادئ التي قامت عليها الألعاب الأولمبية، حيث ان موقعها يذكر حرفيا ان "القيم الأولمبية الثلاث هي التميز والاحترام والصداقة. وهي تشكل الأساس الذي تبني عليه الحركة الأولمبية أنشطتها لتعزيز الرياضة والثقافة والتعليم بهدف بناء عالم أفضل".
هل التعدي على المسيحية يقع ضمن هذه المبادئ والتوجهات؟
ما جرى في هذا الحفل هو ثانيا توسل لمنبر رياضي ثقافي عالمي من اجل الترويج لأفكار خلافية هي موضوع جدال عالمي، وهذا نوع من تضارب المصالح واستغلال للأمور في غير محله.
ما فات من هم وراء ما حصل، هو ان الضمانة الوحيدة لهذه الهويات المستجدة في مجتمع ما- بعد-الحداثة، هي المسيحية نظرا لتعاملها السمح مع كافة الظواهر. ان تصرف السيد المسيح مع الذين أرادوا رجم الزانية، لهو الدليل الدامغ والمثال الأفضل لتعامل المسيحية مع أصحاب الخيارات والهويات المستجدة – الجنسية وغيرها – من حيث عدم رميها بالأحكام المسبقة او توجيه خطاب كراهية ضدها. وإذا كانوا يظنون انهم، عبر السخرية من دين المحبة، يروجون بشكل أفضل لقبول التنوع الاجتماعي، فهم قد ضلوا ضلالا بعيدا.
اما أسوأ ما في الامر، ثالثا، فهو ان هذا الاستعراض الخارج عن محوره والذي أضاع الطريق، قد خضع لموافقة حكومية من اعلى مراجع الدولة في فرنسا، وهذا امر مستغرب ومحزن، ان توافق دولة البلاد المسماة "ابنة الكنيسة البكر" على هكذا برنامج. هنا لا بد ان نقول لهم القول العربي المأثور " ان كنت تدري فتلك مصيبة، وان كنت لا تدري فالمصيبة اعظم"!
اما الطامة الكبرى، رابعا، فكانت في المؤتمر الصحفي الذي عقده بعض المسؤولين عن هذا العرض، وهو كناية عن كلمة اعتذار، هي بمثابة جائزة ترضية، من قبل المسؤولة الإعلامية في اللجنة الأولمبية، وتبرير لا معنى له من قبل هذا الذي نظم هذا الاستعراض. في مطلق الأحوال، لم نكن نتوقع أفضل من ذلك من قبل أناس يقومون بما قاموا به!
على اثر ذلك، بدأت تتصاعد الأصوات المنادية بالرد على هكذا تصرفات، ومفادها انه قد طفح الكيل من امتهان كرامة المسيحية، وعبرها المسيحيين، بواسطة برامج إعلامية او فنية لم تعد أهدافها خافية على احد. لقد شكل الاستعراض الأولمبي المبتذل النقطة التي افاضت الكأس.
لقد فات بعض المنصبين أنفسهم رسل دفاع عن الحرية، ان الحرية لا تعني ان يكونوا هم فقط على حق، ولا ان يزدروا الأديان لأنها تعني الكثير للكثير من الناس، ولأنها كانت حاضرة وهي التي نظمت المجتمع، قبل ان يحضر من يعتبروا أنفسهم حماية "قيم الجمهورية"، وهم، في الحقيقة يختبئون وراءها من اجل التصويب على الغير.
ان كمية النفاق المتداولة في عالمنا اليوم، تتطلب ان ينزل السيد المسيح الى الهيكل من جديد، حاملا سوطه، من اجل طرد تجار المعتقدات والقيم.