المجزرة الذاتيّة
هذه الكلمة متوفّرة أيضًا باللّغتين الإنكليزيّة والإسبانيّة.
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
لا أعتقد أنّ أحدًا قد اعتمد أو إستعمل هذا المفهوم من قبل، إذ إنّ التكلُّم عن نحرِ الذات يسمّى انتحارًا.
المجزرة الذاتيّة ليست إنتحارًا، لأنّ الذي ينتحر إنّما يقوم بفعلته عن وعيّ لنتائج أفعاله ويقرّر إنهاء حياته بإرادته لأنه قرّر أنّه لا يريد الإستمرار في الوجود لأسباب عدّة لا سبيل إلى الخوض فيها في هذا المَقال.
المجزرة الذاتيّة هي أولًا عملٌ جماعيّ، يقوم به شعب تجاه نفسه وهو ناتج عن جهل وجشع وفساد.
في المجزرة الذاتيّة لا تحتاج أن يأتي عدوٌ لك، أو مجتاح طامع بأرضك أو مواردك. في المجزرة الذاتيّة يفقد الشعب وعيَه وتنهار قيمَه ويتصاعد جشعه ويستشري فساده لدرجة أنّه يصبح أعمى البصيرة ولا يوقن الضرر الجماعيّ الذي يتسبّب به لنفسه أولًا ولمجتمعه ثانيًّا. انّها طبائع المجتمعات التي تضمحِّل.
في المجزرة الذاتيّة يخرج الناس عن قانون التشريع وقانون القيَم فيطيحون بالمجتمع ويمعنون بتعميم الإهتراء حتى يطال أعماق جذور الحياة الإجتماعيّة.
في المجزرة الذاتيّة تتصاعد الفرديّة لدرجة أنّها تقضي على المجموع فيصبح الناس في وضع "لا صوت يعلو فوق صوت" مصلحة الفرد على حساب المجتمع. بَحثُ الأفراد عن مصالحهم أمرٌ ضروريّ من أجل التقدّم، ولكن عندما تجتاح مصالح الأفراد المصلحة المجتمعيّة، قُل أنّ المجتمع قد إنتهى. اليست حقيقة إنجيليّة التي أعلنها السيّد حينما قال لنا: "كلُّ مملكة تنقسِم على ذاتها تخرَب وكلُّ مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبُت" (متى ١٢:٢٥)
هذا ما يجري عادة في المجتمعات التي لم تَحسُم إشكاليّة هويّتها القوميّة فيعيش أفرادها جماعات متفرّقة لا بل متنابذة ولا يعون ما هي مصلحة الوطن ومصلحة الشريك في الوطن ويغفلون عن أن مصالحهم تتوقّف عند حدود مصالح الغير ومصالح المجموع، أكنت تسمّيه مجتمعًا أم وطنًا أم أمّة.
وللقيادات دور في إزكاء ثقافة حفظ الذات أو عكسها، ثقافة المجزرة الذاتيّة.
القيادات الفاسدة هي التي تفسد شعوبها وتدرّبهم على تأمين مصالحهم على حساب مصالح الجماعة، لا بل على أنقاض مصالح الجماعة أو حتى وجودها. هنا الفاسد يتساوى مع الخائن في قيمه وممارساته ومفاعيل أعماله.
والفساد، نواةُ ظاهرة المجزرة الذاتيّة، نمط تفكير ينمو مع السلطة وينتشر من أعلى إلى أدنى، ليس لأنّ من هو في أسفل السلّم الإجتماعي ليس فاسدًا، بل لأنّ لا سلطة له تسمح بأن يتجرّأ على ممارسة الفساد. إنّها عمليّة تفاعليّة تأخذ منحى كرة ثلج تتوغّل في بنى المجتمع وتنخرها كما ينخر السوس الاجسام التي يحلّ بها.
عندما يستحيل الفساد، عديل الخيانة، ثقافة معمّمة، أيّ عندما يتسرّب من الجماعة الحاكمة تدريجًا نحو الفئات الأدنى في سُلّم الطبقات الإجتماعيّة، نستطيع أن نعتبر أنّ المجتمع قد دخل في دوامة تدمير ذاتي توصله في النهاية إلى المجزرة الذاتيّة.
قد يتخّذ الفساد شكل قفزٍ فوق القانون، أو تحويرِ نصوص، أو محسوبيّات، أو زبائنيّة، كما يسمّونها، أو إحتكار أو تهريب للسلع الحيويّة للمجتمع أو بيع معلومات أو تزوير وثائق أو تقاضي جعالات أو تزوير حقائق، واللائحة تطول. كل هذه الممارسات ومتفرِّعاتها ومشّتقاتها مجتمعة تشكّل كتلة متكاملة من الممارسات التي تقود إلى تدمير المجتمع كمقدّمة لفنائه.
المشكلة في كل ذلك، والتي تنتج عن عمى البصيرة وعن إنهيار القيَم، أنّ كلّ واحد من الذين يتوّسلون هذه الأساليب إنّما يظّن أنّه بصدد تأمين مصالحه غير متنّبه إلى أنه لا ينفع الإنسان أن يختبئ في مقصورته بينما المركب كلّه يغرق. لو كان يعلم ذلك لسمّينا ما يقوم به هؤلاء الناس إنتحارًا. إنّها مَقولَة لَعْقِ المِبرَد.
إذا لم تقُم في المجتمعات نخب رسولية دأبها محاربة الخيانة، المتمثلة بالفساد، وليد الأنانيّة الجامحة المتفلّتة من كل الضوابط، فاعتبر أن ليس لهذا المجتمع مكان تحت الشمس.