تعليم غبطة البطريرك ساكو 3 – الرجلُ والمرأةُ على صورةِ اللّهِ ومِثالِه
غبطة البطريرك الكاردينال مار لويس روفائيل ساكو
رواية سفر التكوين
تُعبِّر روايةُ الكتاب المقدس، سفر التكوين (فصل 1و2) عن مفهومها للإنسان (الانتروبولوجيا) مستلهمةَ الميثولوجيا (أساطير)، خصوصاً تلك لبلاد ما بين النهرين، حضارة بابل العظيمة1 التي كانت في متناول الكُتاَّب أثناء السَبي البابلي لليهود (عام 586-520 ق.م.)، لإعطاء مفهوم ديني (إيماني) بليغ.
يستعمل الكُتاَّب اسلوبَ الاستعارة allegory بروعة أدبية للشرح، لأنه الأقرب الى مدارك الشعب في زمانهم. كما تقدّم الرواية الى الناس في ذلك الزمان والناس العتيدين معنىً عميقاً عن صورة علاقة الإنسان (ذكراً وانثى) مع اللّه، ومع ذاته، ومع البيئة والمجتمع. وتُبرز الدور البنَّاء الذي يتعين عليه القيام به2 ممارساً سلطته بإنسانية.
التسميّة
يتكلم الفصل الأول عن مكانة الانسان في تصميم اللّه، وفُرادته، وقيمتِه، وانسجامِه، ووحدته. انه واحد، لكنه مختلف بايولوجياً: يُسَميهما انسان وإنسانة: ايش وايشا بالعبرية (تكوين 1/ 27- 31). وبالسريانية ܐܢܫ ܐܢܫܬܐ3. ويُشَبِّه الكُتاَّب اللّه بالخزّاف، فلفظةُ آدم لم تكن اسم علم في البداية، بل تعني الترابي، أي انه من التراب (آداما)، مما يجعله يدرك حدوده وألا يتكبر! أما الإنسانة فيُسميها حَواء، أم الأحياء (الحياة)، اسمها أجمل وأرقى من التراب. ثم يأخذ الرب الاله الانسان، ويضعه في جنة عدن، ليفلحها ويحرسها، ويوصَف اللّه بالبستانّي! لنتذكر هنا مشهد دفن المسيح في إنجيل يوحنا "وكان في البستان قبر جديد. وضع فيه" (19/41)، ولقاء مريم المجدلية بعد القيامة بيسوع، كيف ظنّته البُستانّي (يوحنا 20/15).
في الفصل الثاني نقرأ قصة خلق المرأة: "قال الرب الاله: لا يَجبُ ان يكونَ الإنسان وحدَه، فلنصنعنَّ له عوناً يُناسبه. فأوقع الرب الاله سُباتًا عميقًا على الانسان فنام. فأَخَذَ إِحْدى أَضْلاعِه وسَدَّ مَكانَها بلحمٍ. وبَنى الربُّ الإِلهُ مِنَ الضِّلْعَ الَّتي أًخَذَها مِنَ الإِنسانِ اَمرَأَةً ، واتى بها الى الانسان" (تكوين 2/ 18، 22). الضلع يعني الجزء الأقرب الى قلبه، لتكون مساوية له في الصورة والطبيعة. ولربما الى هذا المعنى تُشير لفظة ܐܢܬܬܐ – المرأة بالسريانية4، التي تعني أنتَ، أي منك! وشوقها يكون لزوجها (تكوين 3/ 16).
المرأة والرجل، من جبلة واحدة مهما إختلفت المظاهر، وتنوعت الوظائف. لخلق المرأة قيمةٌ كبيرة، فهي اكتمالُ الإنسان، الاثنان يصيران واحداً (تكوين 2/24). الى هذه الوحدة الإنسانية يعود يسوع ليؤكد "اذًا ليس بعدُ اثنين، بل جسدٌ واحدٌ، فالذي جمعه اللّه لا يُفرقه انسان" (متى 19/6). الرجل والمرأة ليسا ضدين متخاصمين، بل يتكاملان، ويقفان وجهاً لوجه، ليسند كلٌّ منهما الآخر مدى الحياة، بانسجام وروح المسؤولية وإشعاع. انظروا إشادة سفر نشيد الأناشيد بالمرأة: "جميلةٌ انتِ يا خليلتي، جميلةٌ أنتِ" (1/15)، وسفر الامثال "المرأةُ الحكيمةُ تَبني بيتَها" (14/1) و"يقوم بنوها ويُهنئونها، ويقوم زوجهُا فيمدحها" (31/28) …الخ
الصورة والمثال
تشرح الرواية ان (الثنائي- couple) خلقه اللّه على صورته ومثاله: "فقال اللّه لنصنع الانسان على صورتنا ومثالنا… فخلق اللّه الإنسان على صورته، على صورة اللّه خلقه، ذكراً وانثى خلقهم، وباركهم. ورأى اللّه كم كان حسنًا" (تكوين 1 /26-31،27).
خلق اللّه الإنسان على صورته ليكون معاوناً له في مواصلة العمل الذي بدأه على الأرض، أي ليكون على صورته، يشاركه في الخلق، بعقله وحكمته، وبخاصة في انجاب الأولاد، وتربيتهم ليصيروا على صورة اللّه.
أما المثال فهو على صعيد “الروحانية“ أي في مسعى الإنسان المستمر للتشبه بمثال اللّه والتحلي بصفاته، والتأمل في خلقه. يذكر نرساي الملفان (+502) ان الصورة ثابتةُ، بينما المثالُ متحرك، بسبب غرائز الانسان5، أي مهما بلغ صلاحُ الإنسان أو شرُّه يبقى خلّاقاً على صورة اللّه، أما المثال الروحي فيخسره عندما يبتعد عن اللّه، لكن، يقدر ان يستعيدَه إن تاب، لان اللّه محبة ورحمة.
نلاحظ في الرواية كيف يُعطي اللّه الانسانَ ذكرًا وانثى مكانةً متميزةً في تصميمه، من خلال الطابع الاحتفالي لخلقه: "لنصنع الانسان على صورتنا”، أي بمنحه بركة الخصوبة، وتطويع ما على الأرض وتنظيمه، في حين أن أعمال الخلق الأخرى كانت مباشرة بكلمة “كُن فكان".
نفخ اللّه في الإنسان نسمة الحياة، نفحة الروح، أي شيئاً من ذاته حتى يكون الإنسان إنسانيّاً. “ورأى اللّه كم كان حسناً (تكوين 1/ 31). انه نصٌ مؤسسٌ للإيمان، فمعه تغدو البشرية كلها مشروع خلق، وصيرورة على صورة اللّه ومثاله. هذا هو الأمل. على الإنسان ان يُقيّم هذه العلاقة، ويقرَّ بعرفان جميل اللّه، ويشكره، ولا يدير له ظهرَه. نلاحظ ان اللّه في كلِّ الرواية، يَحتلُّ المركز الأول.
الخطيئة
الانسان مدعو للالتزام تجاه اللّه، لكنه، وللأسف لم يمتثل لأوامره، إذ حاول الارتفاع الى منزلة ليست له، فخطئ، وبالتالي خرّب الثقة والانسجام. انظروا كيف يتهم الواحد الآخر. تقول المرأة لله ان الحية هي التي جربتها، والرجل يتهم المرأة، وعوض الاعتراف بالخطأ جهراً وطلب المغفرة، يتهرب الاثنان أمام اللّه الذي انعم عليهما بالوجود وبكل شيء، يا للعار. لذا يُسيطر الرجل على المرأة ويُهمِّشها، وقد تأتي كلمة ܓܒܪܐ – الرجل بالسريانية التي تعني الجبّار لتعبّر عن هذه الهيمنة! ولتخفيف هذه السيطرة يستدرك سفر التكوين وأيضاً يسوع: “ليترك الرجل أباه وامه ويتبع امرأته” (تكوين 2/24، متى 19/5). من الأهمية بمكان احترام حقوق الانسان، وكرامته، مهما كان جنسه ولونه وبلده، لأنه مخلوق على صورة اللّه ومثاله.
العهد الجديد
يعتبر العهد الجديد المسيح ادم (الإنسان) الجديد: "صورة اللّه غير المنظور، وبكر الخليقة كلِّها (قولسي 1/15، 2 قورنثية 4/4). المسيح رمَّم الصورة التي شوهها الإنسان الأول، وحققها في شخصه بشكل متميز للغاية، فغدا الطريق (المثال) الذي يقود الى اللّه: “انا الطريق والحق والحياة" (يوحنا 14/6) …
هذا المقال نُشر على موقع بطريركيّة بابل للكلدان، لقراءة المزيد إضغط هنا.