ترميم الكنيسة الإنجيليّة العربيّة في حلب يُؤتي ثمرًا حلوًا يُغذّي الجميع

تقرير لما حلاوي

تصوير إبراهيم ملحم

مكتب سوريا

يمكن لمن يسير في شوارع حلب أن يلحظ الآثار التي تركتها الحرب على هذه المدينة. لكن وسط كلّ هذا الدمار، ووسط الحرب التي لم تنتهي بعد، يمكن أيضًا ملاحظة إصرار كبير لدى أهالي حلب على ترميم مدينتهم وحياتهم من جديد لتعود إلى ما كانت عليه، مستعينين بالله ومؤمنين أن قوّته هي سندًا لهم لإعادة بناء ما هدمته يد الشرّ والحرب.

الكنيسة الإنجيليّة العربيّة في حلب، هي واحدة من الأبنية التي طالتها الحرب فهُدِمت بالكامل. يساهم مجلس كنائس الشرق الأوسط بالتعاون مع هيئة "الكنائس معًا" في هولندا، على ترميم المركز الإنجيلي للنشاطات الروحيّة في هذه الكنيسة وذلك ضمن برنامج ترميم وتأهيل المنشآت الكنسيّة والإجتماعيّة جراء الأزمة في سورية.

تأسّست الكنيسة الإنجيليّة العربيّة بحلب في العام 1853 كنتاج لخدمة الإرساليات الغربيّة التي حضرت إلى الشرق الأوسط. بدايةً تمّ تأسيس المدرسة الإنجيليّة للبنات، فتأثّر المجتمع المحلّي، وخصوصًا بعض المسيحيّين، بمنهجيّة حياة المرسلين وسلوكهم وتضحياتهم؛ لذا طلبوا من المرسلين قبولهم والسماح لهم بحضور خدمات العبادة التي كانت تقام فقط للمرسلين. بدأت تظهر بذور الكنيسة المحليّة في هذا الإطار، والتي إتخذت شكلها ككنيسة إنجيليّة عربيّة.

في شهر حزيران من العام 2012، أي خلال سنوات الحرب في سورية، تم استهداف مبنى الكنيسة الإنجيليّة العربيّة بحلب للمرّة الأولى؛ وفي شهر تشرين الثاني من العام نفسه، تمّ تفخيخها من قبل المتطرّفين وتفجير ما يقارب 85% من مبانيها. 

 

ثقة بـاللّه تُبطل شرور الحرب

الرئيس الروحي للكنيسة الإنجيليّة العربيّة في حلب، القسّ إبراهيم نصير يقول: "تضرّرت الكنائس بشكل كبير خلال فترة الحرب في حلب، لكنّها لم تكن الوحيدة، فكلّ بناء وموقع يمثل حضارة حلب وفيه حضور إجتماعي قويّ كان مستهدف من قبل المجموعات الإرهابيّة. أبناء الكنيسة الإنجيليّة في حلب حالهم حال كلّ أبناء حلب عانوا بسبب الحرب والدمار والقتل".

تابع القسّ إبراهيم حديثه قائلًا: "خلال فترة الحرب واجهت الكنيسة تحدّيًا في الحفاظ على الرجاء عند الناس في ظلّ سياسة الإرهاب التي يسودها القتل والظلام والظلم؛ أي: كيف يمكن أن تضيء النور وسط الظلام؟ وكيف تستطيع أن تزرع الرجاء وسط اليأس؟ أذكر يوم قمنا ببناء الكنيسة مسبقة الصنع ليصلّي فيها المؤمنون بشكل مؤقت ريثما يتم ترميم هذه الكنيسة، قال لي أحدهم: هل ما زال لديك أمل في أن يبقى المسيحيون في سورية وحلب؟ فقلت له: إنّ الذي أوجد المسيحيّين في هذه المنطقة لن يتخلى عنهم. نحن لا نقوم ببناء هذه الكنيسة لأجل رعيّتنا فقط، بل لأنّنا نؤمن أن يسوع المسيح لا يزال حيًّا وموجودًا في هذا البلد، وسورية هي موطئ قدم الله في هذا العالم".

أضاف، "خلال فترة الحرب، قامت الكنيسة بمساندة شعبها ومجتمع حلب دون تفرقة، إذ قُمنا بحفر ثلاث آبار في ثلاث مناطق في حلب تضمّ أناسًا من مختلف الديانات، وقُمنا بتأمين سيارة تنقل المياه للناس المحتاجة عندما قام المسلّحون من داعش وجبهة النصرة بقطع المياه عن مدينة حلب. عملت الكنيسة أيضًا على توزيع السلال الغذائية وتأمين المساعدات التعليميّة والطبيّة، إذ أنشأنا مستوصفًا خيريًّا يحمل اسم "مركز أبناء الكلمة الإنجيلي الطبيّ" الذي يقدّم الخدمات الطبيّة الشاملة للناس بشكل مجاني".

عن أهميّة ترميم الكنيسة يقول: "هذا المكان هو هويّة الكنيسة الإنجيليّة في حلب منذ العام 1848، ونحن الآن نعيد بناء هوّيتنا بناءً على الإرث الروحي الذي نحمله منذ ما يقارب 170 إلى 180 عامًا. هنا سكن المسيحيّون الذين يكتب عنهم الكتاب المقدس أنهم دُعيوا مسيحييّن نسبة إلى المسيح، وهذه الكنيسة ستبقى ملحًا يذوب في العالم ونورًا يسود على الأرض. المستقبل في حلب سيكون جيدًا ليس لأنّنا جيدين لكنّ لأنّ إلهنا إله حَسَن وصالح... إنّ من خلق الإنسان من لا شيء قادر أن يخلق مجتمعًا جديدًا في مدينة حلب يشهد لعظيم صنيع الله في يسوع المسيح تجاه الجنس البشري".

ختم القسّ إبراهيم نصير حديثه قائلاً: "أقول للكنيسة في هولندا، أنتم شركاءنا. عندما يتحدّث السيِّد المسيح ويصف الكنيسة، فإنه لا يصف الكنيسة الإنجيليّة أو الكاثوليكيّة أو أرثوذكسيّة لكنّه يصف كنيسة واحدة هي كنيسة المسيح، ويصفها "بالجسد" الذي لديه أعضاء مختلفة، ونحن أعضاء في الكنيسة الجامعة المقدّسة الرسوليّة، وهي مسؤوليّتنا جميعًا أن نعيد ترميم الكنيسة المدّمرة في حلب وهي أيضًا فرصة للكنيسة في هولندا أن تكون شريكة لنا في هذا العمل وفي هذه الخدمة".

ثمر حلوّ يغذّي المجتمع الحلبي

ميلاد (61 عامًا) شيخ في الكنيسة الإنجيليّة العربيّة في حلب وموظف متقاعد يقيم في حيّ السريان القديم في حلب، يقول: "كنّا نعيش في أمان وسلام، لكن فجأة دخلت الحرب إلى بلدنا ومدينتنا. أصبحت القذائف تتساقط على الحي الذي نقيم فيه، لأن حينا كان على خط تماس مع الجهات التي سيطرت عليها المجموعات المسلّحة، إذ كانوا على بعد 200 متر فقط من حيّنا وقد سادت حال من الرعب بين الأهالي".

تابع قائلًا: "أصبحت الحياة صعبة جدًا، كنّا نخشى أن تسقط إحدى الصواريخ على البناء الذي نقيم فيه فيسقط على رؤوسنا ونُدفَن أحياء تحت الأنقاض. أجبرنا على الرحيل إلى منطقة العزيزيّة، وكنّا نصلّي في شقة صغيرة في الطابق الخامس على ضوء الشموع بسبب إنقطاع الكهرباء... رغم كلّ الصعوبات التي واجهتنا في الحرب، كنّا مصرّين على الصلاة وتعبّد الله في هذه المنطقة".

عن إعادة بناء الكنيسة يقول: "هذا الموقع متجذّر فينا وغالي جدًا علينا، يحمل ذكرياتنا وحياتنا وله أثر كبير في نفوسنا.. عندما تنشأ في طفولتك في مكان ما فإنه يتأصّل في عاطفتك وكيانك كلّه...هذا موقع عزيز جدًا عليّ، وإعادة بنائه يعيد إلينا الحياة".

باميلا (26 عامًا) تقيم في حي الجلاء في حلب، خرّيجة كليّة الإقتصاد وتعمل مدرّسة في روضة أطفال، هي من شبيبة مدارس الأحد في الكنيسة الإنجيليّة العربيّة في حلب، تقول: "منطقتي كانت على خط تماس مع منطقة إسمها الشيخ مقصود، لذا كل القذائف كانت تسقط علينا.. المجموعات المسلّحة كانت قريبة من حيّنا لدرجة كنّا نسمع أصواتهم. فقدت والدتي التي أصيبت بمرض السرطان بسبب الخوف الذي تعرّضت له خلال فترة الحرب. الكل تأذّى ماديًّا ومعنويًّا، فالحرب لم تدمّر الأبنية فقط، بل ألحقت الأذى بنفسيّة أهالي حلب. كثيرون خسروا أحباءَ لهم، إمّا بسبب القذائف أو برصاص القنّاصين، ومنهم من أصيب بعاهة دائمة بسبب قذائف الهاون. خلال عملي لاحظت إزديادًا في عدد الأطفال المصابين بمرض التوحُّد وأعتقد أن الحرب هي السبب في ذلك".

تضيف "دمار الكنيسة بالكامل أثّر عليّ بشكل كبير، لقد فتحت عينيّ على هذه الكنيسة، وكنا ننتظر يوم السبت لنجتمع مع بعضنا في مدارس الأحد. أهميّة ترميم هذه الكنيسة تأتي من العودة إلى تاريخها، فعندما أتت الإرساليات إلى هذه المنطقة وبنت الكنيسة في العام 1848، زرعوا بذرة الإيمان في أهالي المنطقة، وعلى الرغم من أن هذه البذرة تعرّضت لمحاولات خنق لمنعها من النموّ، إلّا أنها كبرت وأثمرت، ونحن اليوم سنعمل على إعادة سقايتها لتنمو من جديد وتتكاثر وتعطي ثمرًا حلوًا يؤثر في كلّ المجتمع الحلبي".

 

بارقة أمل

جورج، وهو مشرف على أعمال الترميم في الكنيسة الإنجيلية في حلب، يقول: "الكنيسة هدمت بالكامل خلال الحرب بعد أن عملت المجموعات المسلّحة على تفجيرها. بداية قمنا بترحيل الحجر وبدأنا بأخذ وحدات القياس الطوبوغرافيّة ثم بدأنا بالحفر لوضع أساسات البناء الجديد. الكنيسة قبل الحرب كانت بدون أقبية، لكن على اعتبار أنّنا نعيد بناءها من جديد قرّرنا أن نستفيد من بناء أقبية وكراج للسيارات... القبو سيكون كراج للسيارات والطابق الأرضيّ سيكون للكنيسة وملحقاتها بالإضافة إلى الترّاس كما كانت من قبل أن تتهدّم. الطابق الأول سيكون غرفًا لاستضافة الرياضات الروحيّة وأنشطة الشبيبة في مدارس الأحد".

 

يتمسّك أهالي حلب بإصرارهم على إعادة بناء الحياة في مدينتهم، للنهوض بها من بين ركام الحرب والعودة إلى ألق الماضي. فمدينتهم، التي تعدّ واحدة من أقدّم المدن المأهولة في العالم منذ بداية الألفيّة السادسة قبل الميلاد، شهدت على مرّ العصور الكثير من الضربات الموجعة، لكنها كانت تعود لتقف بقوّة بعد كلّ ضربة لتعود أقوى مما كانت عليه. ولعلّ ما تشهده حلب اليوم من أعمال إعادة إعمار أهمّ معالمها الأثريّة وأسواقها القديمة يمسح غبار الحرب عنها، ويصوّر حب الحلبيّين لمدينتهم وللحياة.  

دائرة التواصل والعلاقات العامة 

Previous
Previous

معًا نتكاتف ونصلّي

Next
Next

معًا نتكاتف ونصلّي