في عيد العنصرة تجديد للإيمان وانتقال إلى النّور الحقيقيّ
هلمّ أيّها الرّوح القُدُس، وأرسل من السّماء شعاع نورك
إعداد: إيليا نصرللّه
إنّه عيد تأسيس الكنيسة وولادتها، اليوم الّذي فيه أوكلت إليها رسالتها: جماعة مبشّرة وشاهدة، وقبل التلاميذ كلام الربّ بفرح عظيم ليبشّروا به في كلّ أقاصي الأرض وبلغّة واحدة، لغّة اللّه... إنّه عيد العنصرة، ذكرى حلول الرّوح القدس على الرّسل الّذين كانوا مجتمعين مع والدة الإله في عليّة صهيون، القدس، عقب صعود يسوع المسيح إلى حضن الآب السّماويّ. إنّه عيد التجديد الّذي ينقل الإنسان من الظّلمة والخطيئة إلى النّور والعفّة؛ هذا النّور الإلهي الّذي يذكره إنجيل يوحنّا في الإصحاح 8: 12 "أنا هُوَ نُورُ العالَم، من يتبَعْنِي فلا يَمشِي في الظَّلام، بل يَكونُ لَهُ نُورُ الحياة".
تحتفل العائلات الكنسيّة بالحدث الإلهيّ هذا بعد خمسين يومًا من عيد الفصح، كلّ منها بحسب طقسها وعقيدتها. ووفق سفر أعمال الرّسل 1:2-11 "حَدَثَ بَغْتَةً صَوتٌ منَ السَّماءِ كَصَوتِ ريحٍ شديدةٍ تَعْسِفُ" وملأ كلّ البيت الّذي كان يضمّ جميع الرّسل حينها، لتظهر لهم ألسنة نار "مُتَقَسِّمَةٌ كَأنَّها مِنْ نَارٍ، فاستَقَرَّتْ على كُلِّ واحدٍ مِنهُم فامتَلأوا كُلُّهُمْ مِنَ الرُّوح القُدُسِ، وَطَفِقوا يتكلَّمونَ بلغاتٍ أُخرى، كَمَا أعطاهُمُ الرُّوحُ أنْ ينطِقوا...". مع حدث العنصرة إذًا، تُتَوّج المرحلة الثّالثة في الكنيسة بالعهد الجديد، لتكون المرحلة الأولى ممتدّة من البشارة إلى الصّليب، الثّانية من الصّليب إلى القيامة والثّالثة من القيامة مرورًا بالصّعود ووصولًا إلى العنصرة.
بالطبع يشكّل حدث العنصرة محطّة مفصليّة في تاريخ البشريّة حيث تتجلّى أولى المسيحيّة وبداياتها، لكن ما هي المعاني الّتي يحملها إسم الذكرى هذه؟ إذًا، "عنصرة" كلمة عبريّة أصلها "عسار" ومنها جاءت كلمة "عسريت"، وتعني "اجتماع" أو "جمع" أو "اجتمع"، لا سيّما وأنّ اليهود كانوا يجتمعون ويحتفلون بأعياد عدّة. كما للكلمة معنى آخر وهو "منع" أو "امتنع" حيث يُمنع العمل في هذا اليوم لأنّه مقدّس ومخصّص للرّبّ. أمّا في اليونانيّة فـ"العنصرة" هي Pentecosti ومشتقّة من πεντηκόστη ἡμέρα وتعني يوم الخمسين.
الرّوح القُدُس مرشد البشر
بالعودة إلى قصّة العنصرة المذكورة في أعمال الرّسل لا بدّ من الإشارة إلى أنّها تشمل رموزًا عدّة تدلّ على الرّوح القدس. أوّلًا تجدون عبارة "ريح شديدة" أو "ريح عاصفة" الّتي ترمز إلى ظهور اللّه في صحراء سيناء كما ورد في سفر الخروج ١٩: ١٦-١٩ والتثنية 10:4، وبها ندرك الجبروت الإلهيّ وبالتّالي وجود اللّه مع جميع البشر بروحه القدّوس (يوحنّا ٢٠: ٢٣-٢٤).
ثانيًا صورة النّار، حلول الرّوح القدس على الرّسل بشكل ألسنة نار، الّتي تدلّ على قدرة أعمال الرّوح الإلهيّة هذه حيث نقلها يسوع المسيح إلى الأرض عبر أعظم فعل حبّ في التاريخ، موته وقيامته. وهنا نستذكر ما قاله القدّيس يوحنّا المعمدان في إنجيل لوقا ٣: ٣- ١٦ "أَنَا أُعَمِّدُكُمْ بِمَاءٍ، وَلكِنْ يَأْتِي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، الَّذِي لَسْتُ أَهْلًا أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ".
وثالثًا يذكر أعمال الرّسل فكرة التكلّم باللّغات وهي ترمز إلى المواهب الروحيّة الّتي أنعمها الرّوح القُدُس على الجماعات المسيحيّة الأولى الّتي انتشرت في كلّ أقاصي الأرض وبين جميع شعوبها. وعلى الرّغم من أنّ التلاميذ في أورشليم كانوا ينتقون بلغّات مختلفة لكنّهم فهموا جميعًا اللّغة الموحّدة، لغّة الرّوح القُدُس؛ على خلاف ما جرى في برج بابل حيث كان التلاميذ يتكلّمون بلغّة واحدة إلى حين جعلهم الرّبّ يتحدّثون بلغّات مختلفة ولم يعد بإمكانهم التفاهم مع بعضهم بعضًا.
العنصرة من العهد القديم إلى الزمن الجديد
تاريخيًّا، تشكّل العنصرة أحد أعياد اليهود الثلاثة الكبرى، وهي الفصح والعنصرة والمظال؛ وله بالتأكيد ارتباط بالعهد القديم، ارتباط زراعيّ خصوصًا أنّ المواسم الزراعيّة شكّلت محورًا أساسًا في حياة الشّعب اليهوديّ وعمله في الأرض. بدايةً عُرِف بـ"عيد الحصاد" وأيضًا بـ"عيد البواكير" حيث ذُكر في سفر الخروج 16:23 "عيد حصاد بواكير غلاتك الّتي تزرعها في الحقل وعيد الجمع عند نهاية السّنة عندما تجمع غلاّتك من الحقل". كما كان يُطلق عليه إسم "عيد الأسابيع"، "وَتَصْنَعُ لِنَفْسِكَ عِيدَ الأَسَابِيعِ أَبْكَارِ حِصَادِ الْحِنْطَةِ. وَعِيدَ الْجَمْعِ فِي آخِرِ السَّنَةِ" (سفر الخروج 22:34).
الّا أنّه منذ القرن الثّاني قبل الميلاد لبِسَ العيد هذا منحًى آخر ليصبح مرتبطًا بإقامة العهد بين اللّه والشّعب في سيناء وحلول الشّريعة على الشّعب اليهوديّ على يد موسى النبيّ، وذلك بعد خمسين يومًا من عبورهم البحر الأحمر.
بين العهدين القديم والجديد، يسجّل عيد العنصرة معانٍ ودلالات مختلفة. في الفترة الأولى يُعتبر يوم الخمسين ذكرى استلام موسى الشّريعة بينما في الثّانية ذكرى استلام تلاميذ يسوع شريعة الرّوح القدس. في القديم عرض موسى للشّعب وصايا اللّه، أمّا في الزّمن المسيحيّ فقدّم بطرس للشّعب تمجيد الربّ يسوع. وكذلك في القديم، توجّه موسى إلى الشّعب الّذي يتحضّر لدخول أورشليم الأرضيّة، بينما في الجديد دعا بطرس الشّعب للدخول إلى أورشليم السماويّة.
أيقونة العنصرة
لعيد العنصرة أيضًا أيقونة خاصّة تعرض الحدث الإلهيّ هذا، فما هي الرموز الّتي تقدّمها؟ بدايةً نلاحظ الرّداء الأحمر الّذي يطوّق المكان في الأيقونة وذلك دلالةً على المجد الإلهيّ. أمّا التلاميذ الّذين يحيطهم الرّداء فعددهم 12 ويجلسون على مقعد نصف دائريّ كأنّهم في مجلس أعلى "ستجلسون معي وتدينون الأمم" (متّى ٢٨:١٩)، وفي أيديهم الأناجيل والرّسائل إشارة إلى ما كتبوه وبشّروا به.
المقعد في الوسط شاغر لأنّه مخصّص ليسوع المسيح. من جهّة اليمين يجلس بطرس، متّى، مرقس، يعقوب، سمعان وتوما، وفي اليسار بولس، يوحنّا، لوقا، اندراوس، برثلماوس وفيليبّس. أمّا والدة الإله فهي غير موجودة في أيقونات العنصرة الّا في البعض منها، على عكس أيقونة الصّعود، وذلك لأنّه حلّ عليها الرّوح القدس في البشارة.
في أسفل الأيقونة تجدون رجلًا مسنًّا داخل كهف مظلم، وهو ملك شيخ يمثّل كلّ الخليقة الّتي تواجه الخطيئة منتظرة البشارة، النّور الإلهيّ، وفي يديه قطعة من القماش عليها 12 ملفًا تدلّ على الرّسل الـ12 الّذين قاموا بالبشارة في كلّ أنحاء الأرض.
إذًا، لنسبّح الرّوح القدس ونمجّد الأقانيم الثّلاثة هاتفين معًا "قد نظرنا النّور الحقيقيّ وأخذنا الرّوح السّماويّ، ووجدنا الإيمان الحقّ، فلنسجدْ للثّالوث غير المنقسم، لأنّه خلّصنا" (ترتيلة من القدّاس الإلهيّ للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم في الكنيسة الأرثوذكسيّة).
دائرة التواصل والعلاقات العامة
المراجع:
موقع بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للرّوم الأرثوذكس: https://bit.ly/3cDl0Zq
موقع البطريركيّة اللّاتينيّة القدس: https://bit.ly/3gw67cK
موقع البابا فرنسيس: https://bit.ly/3gk5ns7
موقع النهار: https://bit.ly/3gmwrqY
موقع السراج الأرثوذكسي: https://bit.ly/3gCQwrI