روما والصلاة والشعب المسحوق
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
سوف أكتب اليوم عن لبنان، ليس لأنّه بلدي، بل لأنّ ما يعيشه ويعانيه اللبنانيّون تخطّى كلّ توقُّع وكلّ خيال علميّ. ولو مرّت أيّة بلاد بنفس ما يمرّ به لبنان لوجب على الجميع الكتابة عنها.
في لبنان خمسة ملايين رهينة، جزء كبير منهم يعشق جلّاديه،
في لبنان جوعٌ وفقرٌ وبؤسٌ وقهرٌ ومحسوبيّات وإقطاع سياسيّ، وتوسُّل للدين في السياسة، وتجاهل لأحوال البلاد والعباد،
في لبنان نقصٌ في الدواء وحليب الأطفال والمواد الغذائيّة، وإذا وُجِدَ منها يكون ثمنه أبعد بكثير من قدرات الأكثريّة الساحقة من الشعب، لذلك أصبح مشهد اللبنانيّين الذين يبحثون عن قوتِهم في مستوعبات النفايات مألوفًا،
في لبنان نقصٌ حاد لمصادر الطاقة على أنواعها ينتج عنه تعثُّر للإنتاج وانحدار حاد في مستوى الحياة،
في لبنان مؤسّسات تُقفل أبوابها وعمّال يُصرفون بالألوف وأسر تستحيل دون معيل،
في لبنان نفايات تتكدّس وتسمِّم الأجواء ولا من يكترثون،
في لبنان شباب يهاجر بأعداد خطِرة بحثًا عن حياة كريمة ومستقبل أفضل،
في لبنان لم يعد الأطفال يلعبون ويُغنون ... لقد طار الفرح من حياتهم،
في لبنان يشعر الناس أنّ الساعة قد أتت وأن كارثة ستحلّ بين الفينة والأخرى،
في لبنان تناقضات حادّة بين البذخ والبؤس، بين الإسراف والتقتير، بين الكرامة والذلّ بين الصدق والنفاق وبين الوطنيّة والخيانة.
لأنّ في لبنان كلّ ذلك متوفِّر،
ولأن اللامبالاة بلغت شأوًا متقدمًا،
ولأنّ سوس الفساد نخر عظام القيَم وفكّك بنى المجتمع،
ولأنّ الكرامة الإنسانيّة فقدت معناها الّا عند النزر اليسير من الناس،
ولأنّ المقاييس الأرضيّة لم تعد تصلُح لا لفهم ما يجري ولا لإخراج البلاد من عنق الزجاجة،
ولأنه لم تعد تقيمنا من كبوتنا ووحلتنا الّا قوّة غير هيوليّة غير مرئيّة لا تقاس ولا ترى،
اسمها رحمة اللّه،
كان من الضروري أن تذهب القيادات الروحيّة إلى روما بدعوة من قداسة البابا في يوم صلاة وتأمّل من أجل لبنان.
القوى الأرضيّة لم تعد تنفع،
والخطابات الخشبيّة تخطّاها الزمن،
والخطط الجهبذية تزيد الطين بلّة،
لا بدّ إذًا من اللجوء إلى قوّة مخاطبة الخالق، لعلّ في ذلك عبرة للمخلوق.
القيادات الروحيّة تعرف معرفة اليقين ماذا يجري على أرض لبنان، وقد أدّت واجبها بكلّ ما أوتيت به من طاقة وإرادة،
المؤسّسات الدينيّة ليست دولة ولا تستطيع ان تكون البديل عنها، لا هي ولا كلّ صناديق الإغاثة ولا الهيئات التنمويّة ذات الطابع الأهلي،
لا بديل عن الدولة القادرة المنزّهة لضبط طاقات الشعب والسير بالمجتمع نحو الفلاح.
أمّا القيادات الدينيّة فليس في مقدورها القيام بأكثر ممّا قامت به، أكان بالقول أم بالفعل،
لذلك دعاهم كرسيّ بطرس إلى الصلاة.
عبر الصلاة والتأمُّل، تحت أبصار المعمورة، وخصوصًا تحت أبصار أبناء شعبنا المكلوم، سيتذكّر الناس أنّ هناك قوّة القادر التي تعطيهم دفعًا كافيًّا كي يجسروا أن يحلموا ببناء غد أفضل وأن يشرعوا ببناء هذا الغد الذي هو أدنى حقوقهم.
عبر الصلاة والتأمل سيتذكّر الشعب أنّ هناك إلهًا واحدًا أحدًا، سماويًّا، يعبدونه ويلجأون إليه في الملمّات وأنّ "الألهة" الأرضيّين الذين يعبدون ليسوا إلّا حفنة تراب، مثل سائر البشر.
التأمُّل والصلاة التي سيشترك بها أحبار كنيسة المشرق، هي في شراكة مع أبناء أمّتنا من غير المسيحيين، شراكة شدّد عليها غبطة البطريرك يوحنا العاشر عبر الزيارات التي قام بها الى القيادات الدينيّة الإسلاميّة في لبنان قبيل سفره إلى روما والتي خلالها جرى التداول حول عقد قمّة روحيّة بعد العودة من روما.
التأمُّل والصلاة في روما، في الأوّل من تموز، سبقها يوم صلاة من أجل السلام في الشرق في السابع والعشرين من حزيران/يونيو وقد تليَ نص كتبه غبطة الكاردينال مار روفائيل ساكو لهذه المناسبة.
لبنان جزء من هذا المشرق الذي عانى ويعاني الأمرّين، من القريب قبل البعيد، وكونه يشكِّل الحلقة الأضعف، فإن كوارث هذا المشرق تصبّ عنده وتزيد في ضيمه وخرابه.
لقد آن الأوان أن ينتهي هذا المسار المزمن.
ألا يحقّ للبنانيّين، والمشرقيّين، بعضًا من الإستقرار؟