لأول مرّة بعد عشر سنوات من الحرب، ترميم "الثانويّة السوريّة الخاصة في حلب" يُعيد الأمل لطلّابها

تقرير لما حلاوة

تصوير إبراهيم ملحم

مكتب سوريا

يقرع جرس المدرسة معلنًا بدء الحصّص الدراسيّة؛ يتسارع الطلاب ليأخذ كل واحد منهم مكانه في صفوف طويلة تغطّي باحة المدرسة، يؤدّون تحيّة العَلَم ثم يصعدون إلى صفوفهم. سرعان ما تمتلئ الصفوف الدراسيّة كافة في الأبنية الموزّعة حول باحة المدرسة، ما عدا بناء واحد مصنوع من حجر قديم، هو أقدم بناء في المدرسة؛ سيبقى هذا البناء فارغًا من الطلاب إلى حين إنتهاء أعمال الترميم وإزالة كلّ آثار الحرب التي طبعت عليه بعد أن بقي صامدًا في وجه القذائف والتفجيرات الإرهابية خلال سنوات الحرب في سورية.

يعمل مجلس كنائس الشرق الأوسط بالتعاون مع هيئة "الكنائس معًا" في هولندا، على ترميم هذا البناء في المدرسة الثانويّة السورية الخاصة في حلب، وذلك ضمن برنامج ترميم وتأهيل المنشآت الكنسيّة والاجتماعيّة جراء الأزمة في سورية.

 تأسّست هذه المدرسة في العام 1947 بغية تعليم الطلاب الذين تمّ جمعهم من الشتات السوري، بعد المجازر التي قامت بها السلطات العثمانية.

كانت المدرسة تُعرَف باسم ثانوية كارين يبيه، المحسنة الدانماركيّة التي كان لها دورًا فاعلًا في الأعمال الخيريّة وبناء المدارس والفعاليات الخدميّة، لمساعدة الأرمن خاصةً الأيتام منهم، الذين وصلوا إلى حلب نتيجة التهجير والترحيل أثناء الإبادة الجماعيّة الأرمنيّة عام 1915، لذا تمّت تسمية الثانويّة السوريّة باسمها تكريمًا لها.

تتألف المدرسة من بناء أساس مؤلّف من طابق أرضي يتضمن المختبرات والمكاتب وطابقين للصفوف الدراسيّة بالإضافة إلى مكاتب التوجيه وغرف المعلّمين والمعلّمات. كما أنّ للثانويّة صالة متحف وصالة نشاطات بالإضافة إلى مبنى فرعي.

تضرّرت الثانوية السورية الخاصة بشكل كبير خلال فترة الحرب، حيث أنها كانت تقع على خط تماس العمليات الحربية.

 

الكنيسة تعيش مع الناس آلام الحرب

مطران الأرمن الأرثوذكس لأبرشية حلب وتوابعها، ماسيس زوبويان قال: "الناس في حلب، وكما كلّ السوريين، عاشوا في ظروفٍ قاسية وخوف خلال فترة الحرب. الأبنية السكنيّة والكنسيّة تعرّضت للدمار... كُثُر هجّروا، لكن على الرغم من هذه الظروف القاسيّة لم تتخلَّ الكنيسة عن أبنائها، كما فتحت أبوابها أمام الجميع دون تميّيز".

أضاف، "الكنيسة عاشت الآلام الصعبة مع الناس خلال فترة الحرب السورية، كما عاشت أيضًا الآلام مع الشعب الأرمني أثناء الإبادة الجماعيّة الأرمنيّة. أنا فخور بكهنتنا الذين لم يسافروا بل بقيوا في الأبرشية في حلب وشاركوا الناس أوجاعهم. كذلك المنظّمات الإنسانيّة كان لها دور فاعل خلال فترة الحرب وبعدها، إذ قدّموا المساعدات للناس وشجّعوهم على البقاء في سورية... الكنيسة كان لها دور كبير ومدارسنا وجمعيّاتنا الأرمنيّة كلّها كان لها دورًا كبيرًا في تقديم المساعدات للمسيحيّين، وللأرمن الأرثوذكس في حلب، ولكلّ المحتاجين من مختلف الأديان".

عن مدرسة الثانوية السورية الخاصة قال المطران زوبويان: "تحظى الثانويّة السورية بمكانة مهمّة في المجتمع الحلبي وبين الأرمن الموجودين في حلب، إذ تخرّج منها عدد كبير من الطلّاب الذين حقّقوا مراكز مهمة سواءً في حلب أو في المجتمعات المختلفة حول العالم".

وعن وإعادة ترميم المدرسة قال: "بناء المدرسة تأذّى بشكل كبير خلال فترة الحرب، كما كلّ الأبنية الأخرى الموجودة في حيّ الميدان، إذ أنّها كانت على خطّ تماس مع عمليات القتال، وما زالت آثار الدمار موجودة في العديد من الأبنية المحيطة بالمدرسة. إعادة ترميم المدرسة مشروع مهم جدًا بالنسبة لنا، إذ يشجّع الناس على البقاء في سورية وفي حلب وأيضًا للحفاظ على قيمتها الحضارية".

تابع المطران زوبويان حديثه قائلًا: "رغم كل الصعوبات لا نزال موجودين في سورية وفي حلب، وكلنا أمل بالمستقبل. نستمّد الأمل أولاً من إيماننا المسيحيّ، وثانيًا من الكنائس والمنظّمات الإنسانيّة التي تقف إلى جانبنا وتساعدنا. أبرشيتنا كبيرة ومنتشرة في سورية، ولدينا الكثير من المشاريع المستقبليّة المتعلّقة بالكنائس والمدارس. نحن كسوريون موجودين في سورية لنا دور في إعادة إعمار هذا البلد".

ختم المطران زوبويان حديثه قائلاً: "أريد أن أشكر الإخوة في هولندا من صميم قلبي لأنّهم فهِموا وجعنا وسمعوا صوتنا وساعدونا. أريد أيضًا أن أطلب منهم أن يتابعوا رسالتهم، فهذه الرسالة ليست رسالة مسيحيّة فقط، وإنما هي رسالة إنسانيّة أيضًا تجاه الجميع وخصوصًا الكنائس في سورية التي عانت كثيرًا خلال سنوات الحرب. أشكرهم أيضًا لأنّهم لم ينسوا سورية بل تذكّروها في صلواتهم وفي تنفيذ هذا المشروع المهم، أعني مشروع إعادة ترميم المدرسة السورية الخاصة".

 

تاريخ عريق ومكانة خاصّة لدى المجتمع الأرمني

مدير مدرسة الثانوية السورية الخاصة، أغوب كيلجيان، قال: "عشنا أيامًا صعبة وقاسية خلال فترة الحرب في حلب. لم نخسر ماديًا فقط بل أيضًا خسرنا الإنسان إذ إستشهد الكثير من الناس بفعل التفجيرات والقذائف، فالحرب لا ترحم. كنّا في كلّ مرّة نضطر فيها للخروج من المنزل نخشى ألّا نعود إليه ثانيةً".

أضاف، "رغم كل الصعوبات استمرينا بالعملية التعليميّة، ولأننا لم نعد قادرين على متابعة الدوام الدراسي في هذه المدرسة بسبب تواجد المجموعات الإرهابيّة على بعد 100 متر فقط من المدرسة، وبسبب تساقط القذائف بكثرة عليها، إنتقلنا للدوام في بناء موجود في مكان آخر أكثر أمنًا. إنخفض عدد الطلاب في سنوات الحرب إلى 750 طالبًا وطالبة بعد أن كان عددهم يصل إلى 1150 طالبًا وطالبة. كانت ظروف صعبة لكن كنّا قادرين على الإستمرار في العملية التعليميّة".

تابع كيلجيان: "خلال الحرب، حدث تفجير إرهابي في سيّارة مفخّخة جانب المدرسة أدّى إلى دمار في البناء الحديث فيها، ثم بدأت القذائف بالتساقط على المدرسة. هذه القذائف كانت عبارة عن قوارير غاز معبئة بالمتفجرات، لذا كانت تسبّب دمارًا كبيرًا في المكان الذي تسقط فيه، وبفعلها تأذى البناء القديم في المدرسة بشكل كبير، وهذا البناء هو الذي نعمل على ترميمه اليوم".

وعن إعادة الترميم قال: "إن أهميّة إعادة ترميم المدرسة يأتي من أهميّة تاريخها، إذ أنّ لهذه المدرسة مكانة خاصّة في وجدان المجتمع الأرمنيّ في حلب بشكل خاص وفي المجتمع الحلبيّ بشكل عام. بدايةً كانت المدرسة عبارة عن دار للأيتام والأرامل أسسّتها المُحسِنة الدانماركيّة كارين يبيه التي تركت دراستها الجامعيّة في الدنمارك وجاءت إلى حلب لمساعدة الأرامل والأيتام من الأرمن الذين تعرّضوا للإبادة. قامت بتربية الأيتام وعلّمت الأرامل أعمال يدويّة وكانت تقوم بتسويق المنتجات لمساعدتهم على تحقيق دخل ماديّ يساعدهم على الإستمرار في الحياة. تأسسّت مدرسة الثانوية السورية الخاصة في العام 1947 وكانت أول ثانوية للأرمن على الأراضي السوريّة، وكانت من المدارس المميّزة في حلب، تخرّج منها آلاف الخريجين المنتشرين في أنحاء العالم ويحنّون للعودة وزيارة مدرستهم".

ختم حديثه قائلًا: " إعادة ترميم المدرسة الثانوية السورية الخاصّة يعطي الأمل لأهالي طلابنا، ولطلابنا أنفسهم الذين سافروا إلى الخارج، فبعد أن عرفوا أننّا نعيد ترميم الجزء المهدّم من المدرسة وسنقوم بافتتاحه قريبًا، عاد قسم كبير منهم وقد أخبرونا عن رغبتهم بالعودة إلى المدرسة".

 

طلّاب يستعيدون الأمل لتحقيق أحلامهم

آرمان (16 عامًا) أحد الطلاب في المدرسة قال: "خلال فترة الحرب كنّا نعيش في خوف دائم ... الحرب التي عشناها كانت مثل غيمة سوداء غطّت على كلّ سورية. هجّرنا من منازلنا ومن مدرستنا التي نحبّ. أذكر عندما بدأت الحرب كانت القذائف تتساقط في باحة المدرسة وعلى بنائها أيضًا، لذا أجبرنا على الإنتقال إلى بناء آخر في حيّ السليمانيّة في حلب حيث كان الوضع أقلّ خطورة".

أضاف "تاريخ المدرسة مهم جدًا بالنسبة لي، لأنني هنا أتعلّم اللّغة الأرمنيّة بشكل أكاديمي وهي لغتي الأمّ ولا يمكنني تعلّمها في أيّ مدرسة أخرى غير هذه. كما أنّها المدرسة التي تعلّم فيها والديّ وأنا أرغب في أن أتابع تعليمي هنا".

وعن الترميم قال آرمان: "البناء القديم في المدرسة هو البناء الأساس، أمّا الأبنيّة الأخرى فقد تمّ بناؤها لاحقًا، وهذا البناء هو الأكثر تضررًا. أعمال الترميم التي تجري في المدرسة أعادت لنا الأمل لأول مرّة بعد انتهاء الحرب، لتحقيق أحلامنا".

هوري (15 سنة) إحدى الطالبات في المدرسة، قالت: "بعد توقف الحرب عُدنا إلى مدينتنا وإلى مدرستنا، وقد سررت كثيراً لذلك... بداية بدت المدرسة مختلفة بالنسبة لنا عمّا عهدناها قبل الحرب، لكن بعد أن قضينا عامنا الدراسي فيها وعشنا أوقاتًا حلوة فيها عادت في عيوننا مدرستنا الجميلة وأجمل مما كانت. ننتظر أن ينتهي ترميم البناء القديم في المدرسة، لأنه البناء الأساسي للمدرسة وكلّ الأجيال التي سبقتنا تخرّجت منه، بالإضافة إلى أن الصفوف في هذا البناء أوسع من تلك في البناء الآخر الذي نداوم فيه".

 

بناء مدرسة الثانويّة السوريّة الخاصّة في حيّ الميدان بحلب، كان شاهدًا على حرب قاسية ومدمّرة شهدتها تلك المدينة، وما زالت تشهدها مدن سوريّة لم تتوقف الحرب فيها بعد. ينتظر طلاب المدرسة إنتهاء أعمال الترميم ليتابعوا دراستهم في بناء المدرسة القديم الذي يحمل ذكرياتهم قبل الحرب، وسيحمل ذكريات سيتركونها في هذا المكان ويكملوا مشوارًا سينتقل الى أجيال قادمة.

دائرة التواصل والعلاقات العامة

Previous
Previous

وفد مجلس كنائس الشرق الأوسط في مطرانيّة بيروت للموارنة

Next
Next

معًا نتكاتف ونصلّي