لقد استحقت المكانة
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
هي المرأة، الأم والأخت والزوجة والإبنة والصديقة والرفيقة وكل مسمّيات الأمان تطلق عليها.
هي أمان الإنسان والإنسانيّة الذين أجرموا بحقّها لمئات السنين، فسلبوها ما لها ونكروا عليها ما هي عليه، فقط لأنّهم أقوى منها ولأن الغابة أورثت المجتمع غلبة الأقوى واستئثاره بما يستحق وما لا يستحق.
هي الصبر والصمود وتَحَمّل ما لا يُحتمل صونًا لمن تحب.
هي الصامتة المتعقلة الطويلة الأناة التي احتضنت من صنعوا تاريخ الإنسان.
في جوفها حُمل بهم وعلى يديها ترعرعوا وعلى حنين صوتها الشجي غفوا، أو على أقاصيصها، من رسموا خطوط الحضارة.
هي الأسس التي تمسك بنيان حياة الإنسان، الأسس المخفية التي نادرًا ما يتذكرها الإنسان.
هي التي كافأها الجنس البشري بشتّى النعوت وبشظف العيش وبالتمييز في كلّ الميادين وأطلق عليها أقذع الصفات وهدر حقوقها وساقها سلعة ونكّل بها أيّما تنكيل.
ما تعرّضت له المرأة قد يكون تعرّض له الكثير من الرجال، ولكن الممارسات السيئة على كل الصعد لازمت المرأة أكثر بكثير ممّا تعرّض له الرجل.
قد يكون تسليع المرأة أبشع ما مورس بحقها والأكثر إهانة للنفس البشرية. لقد جرى تسليعها بشتى الأساليب التي لا مجال للدخول في تفاصيلها المهينة، ليس لها فقط، بل لبني البشر.
أمّا اليوم فإننا على المقلب الآخر من الظاهرة.
المرأة هي، هي، الأم والأخت والزوجة والإبنة والصديقة والرفيقة، ولكنّها تحمل مكوّنات شخصيّة واجتماعيّة جديدة.
إنّها المرأة المتعلمة، المحترفة، والتي دخلت المجتمع من بابه الواسع.
كلّ مجال تلجه تجدها قد أحسنت التموضع وأدّت الآداء الحسن.
منذ بداية حياتي المهنيّة عايشت سيدات تعملن في شتّى المجالات. من التعليم والبحث العلمي إلى الإدارة إلى المصارف إلى الطبّ والتمريض إلى الهندسة إلى المحاماة وغيرها من المجالات، نجد المرأة قادرة على الإنجاز والإبداع.
مفتاح هذا التحوّل يكمن في التعليم، هذه البركة التي حُرمت منها المرأة لقرون تحت ذرائع شتّى.
التعليم هو رافعة الشعوب والمسحوقين والفئات المهمّشة. فيه يكمن سرّ التقدّم الإجتماعي والله جعله حق لكلّ الناس وواجب عليها.
بين "المرأة التي قتلها الجهل" والمرأة التي كرّمها العلم وكرّمت نفسها به، مسار قرون للبشرّية التي استبّدت بها.
بين وئد البنات وتكريم بنات الدار ومعاملتهن كأميرات، خطت مجتمعاتنا خطوات جبّارة إلى الأمام.
إنّنا نشهد، منذ عقود، في لبنان والعالم العربي، تحوّلات جذرية في وضع المرأة على كافة الصعد، وهذه التحوّلات هي نتيجة ديناميات مختلفة سوف يتطرّق إليها المحاضرون كلٌّ من وجهة نظره.
هي اليوم شريك بحقوق كاملة في مختلف ميادين الحياة. من العائلة إلى السياسة، مرورًا بالعمل، لم يعد هناك جدل اليوم حول دورها.
لقد عايش جيلي هذه التحوّلات ورأيت وسمعت كيف كانوا يحاولون الإكتفاء بأن تنهي الفتات المرحلة التكميليّة ثم تلزم منزلها بانتظار من "يسترها". أمّا اليوم، فلا الأهل يقبلون ولا هي تقبل أن تتوقف دون الشهادة الأعلى في مجال اختصاصها.
لقد أيقن مجتمعنا أنّه، إذا كانت المجوهرات التي تقتنيها المرأة هي حماية لها في حال فشل زواجها، فإن العلم والمهنة هما حصنها الحصين.
هذه من مؤشرات الترقّي الأساسيّة وإذا أردنا أن نحدّد معيارًا لرقي الشعوب، فإنّ النظرة إلى المرأة ومعاملتها هما المعيار.
منذ ألفين، رفض ثائر يدعى يسوع المسيح وضع المرأة في زمانه، وشجب الدونيّة التي كانت تُعامَل بها والظلم الذي كانت تتعرّض له وأعاد الإعتبار إلى أكثر النساء عرضة للملامة آنذاك، فلجم حقد الجماهير الغبيّة ومنع عنها الرجم. لقد رسم مسار إعادة الكرامة للمرأة منذ ذلك الزمان.
إنّ المخلوق المستضعف الذي لم يكن له إلّا خيار التبعيّة، أصبح اليوم الرقم الصعب في الحياة الإجتماعيّة وقد استحق هذه المكانة.
**********************
هذه هي الندوة الرابعة من ندوات مشروع الكرامة الإنسانيّة وقد نظّمها فريق العمل بشكل طاولة مستديرة وحرص أن تضّم أفضل الباحثين والمتخصّصين بالأمر.
إضافة إلى ذلك، أردنا أن تكون هذه الندوة حضورية فقط للمحاضرين وللطلاب الذين يشتركون في هذا العمل، علمًا أن الندوات المستقبليّة سوف تكون حضوريّة وفي أماكن مختلفة من الشرق الأوسط إذا سمحت الأوضاع بذلك.
إنّنا نشكر الزملاء أعضاء فريق العمل ونثني على جهودهم، كما نشكر المحاضرين ونقول لهم إنّ هذه ليست سوى البداية وسوف نحاول قدر المستطاع التواصل معهم من أجل تحديث ملف الموضوع الذي اشتركوا به وإبقائه على حيويته من ضمن سياق العمل على دراسة وإعادة تأهيل الكرامة الإنسانيّة في بلادنا.
أهلًا وسهلًا بكم.