العدالة الإجتماعيّة وبؤس الإنسانيّة
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
لقد جعلت منظمة الأمم المتحدة يوم العشرين من شباط على أنّه اليوم العالميّ للعدالة الإجتماعيّة، وقد حدّدت موضوع إحتفاليّة سنة 2022 على أنّه تحقيق هذه العدالة بالتوظيف الرسميّ، أيّ المنظّم بعَقد والمضمون من قِبَل الدولة عبر القوانين المرعيّة الإجراء، خصوصًا قانونيّ العمل والموجبات والعقود.
لا شكّ أنّ الخيار جيّد، إذ أنّ البشرية برمّتها تنحو نحو التوظيف غير الرسمي حيث لا يستفيد المستخدم من أيّة حماية إجتماعيّة أو قانونيّة وحيث شروط العمل عمومًا تتراوح بين المقبول والمزري وصولًا أحيانًا إلى غير الشرعيّ، على الرغم من وجود فوارق بين العمل غير الرسميّ والعمل غير الشرعيّ.
سنعود لاحقًا إلى هذه النقطة بعد تحليلنا لهذه المناسبة ومكوّناتها وخلفيّاتها.
إنّ هذا اليوم، والذي يسمّى أيضًا يوم المساواة والعدالة الإجتماعيّة، إنّما جُعل لتأكيد ضرورة تعزيز العدالة الإجتماعيّة، وذلك عبر معالجة الفقر والإستبعاد والتميّيز بين الجنسين والبطالة وحقوق الإنسان والحماية الإجتماعيّة، خصوصًا في ظلّ العولمة، وفق أدبيّات الأمم المتحدة ومنظّمة العمل الدوليّة. كما تتكلّم الأدبيّات ذاتها عمّا تسمّيه "العمل اللائق".
لكن اللّافت للنظر في الأدبيّات المتعلّقة بهذا الموضوع هو التركيز على العولمة وعلى تعزيز المنشأة من أجل إيجاد عدالة إجتماعيّة وعمل لائق لإنسان القرن الواحد والعشرين الغارق في البطالة والبؤس وسوء التغذية وانتفاء الوقاية والعناية الطبيّتين إضافة إلى ظروف السكن غير اللائقة بتاتًا وكلّ هذه المعطيات لا تحتاج إلى دراسة ميدانيّة معمّقة لاكتشافها كونها ظاهرة للعيان "بالعين المجرّدة".
وتضيف أدبيّات الأمم المتحدة أنّ "العولمة والترابط يُتيحان فرصًا جديدة، عبر التجارة والإستثمار وتدفّق رؤوس الأموال وأوجه التقدّم التكنولوجي، بما يشمل تكنولوجيا المعلومات، أمام نمو الإقتصاد العالمي والتنمية وتحسين مستويات المعيشة في العالم" وهي مقتنعة بذلك رغم "استمرار وجود تحدّيات جِسام، منها الأزمات الماليّة الحادّة وانعدام الأمن والفقر والإستبعاد وانعدام المساواة داخل المجتمعات وفي ما بينها".
لا بدّ أنّ في الأمر سوء تفاهم أو عدم معرفة بطبيعة الأنظمة الرأسماليّة المتوحّشة التي نشأت بعد انهيار منظومة الإشتراكيّة العلميّة التي بدورها، وبدرجة ليست أقلّ من الرأسماليّة المتوحّشة، أمعنت في المجتمعات التي حكمتها إضرارًا وسجنتها في قفص إيديولوجيّ لا يختلف كثيرًا عن قفص رأسماليّة ما بعد سقوط الشيوعيّة ظُلمًا وتمثيلاً بالنفوس والعقول.
إذا كان هناك خبراء يظنّون أنّ تحقيق العدالة الإجتماعيّة وتأمين العمل اللائق يكونان حصرًا نتيجة تقدّم إقتصاديّ إجتماعيّ بحت فقد ضلّوا ضلالًا بعيدًا وغفلوا عن النفس والجشع البشرييّن وتحكّم القوي بالضعيف في العلاقات الإجتماعيّة - الإقتصاديّة.
لقد أثبتت الوقائع التاريخيّة أنّ تطوّر الحماية الإجتماعيّة في العالم الليبرالي لم يكن إلّا تحت ضغط الحركات المطلبيّة التي استلهَمَت الإشتراكيّة والشيوعيّة وأنّ انهيار هذا الضغط مع إضمحلال المنظومة الشيوعيّة قد أظهر نتائجه في السنة التي تلت هذا الإنهيار حيث بدأنا نرى تراجعًا للعدالة في توزيع الدخل على المستوى العالمي وانفصامًا طبقيًا قضى على الطبقة الوسطى، الوسيلة الوحيدة للحراك الإجتماعي في العالم الليبرالي.
لقد اثبتت الإحصاءات أنّ الفقر قد ازداد إلى درجة البؤس، على الرغم من الجهود المضنية على الصعيد الدولي لمنظمات الأمم المتحدة كما المنظمات الأهليّة في دعم الجماعات الأكثر فقرًا.
منذ نهاية "الثلاثينات المجيدة" التي تلت الحرب العالميّة الثانية والبطالة على ازدياد، وقد إتخذت مناحي مخيفة إذ اصبحنا نتكلّم عن البطالة الطويلة الأمد وعن بطالة الشباب – أو الإثنين معًا – حيث انخفضت أعمار العاطلين عن العمل لمدة طويلة تفوق السنتين وقد تصل إلى العمر كلّه حيث يتقلّب الإنسان بين البطالة والعمل غير الرسميّ وأحيانًا غير الشرعي لعشرات السنوات.
إنّنا نشهد منذ التسعينات تصاعدًا مضطردًا للعمل غير الرسميّ كما الهامشيّة الإجتماعيّة -الإقتصاديّة وكل مندرجاتها النفسيّة والطبيّة والعائليّة، وهذه الظاهرة المخيفة لا بدّ أنّها تحتاج إلى تحفيز ريادة الأعمال وإعادة تكوين الطبقة الوسطى ولكن هذه التدابير ليست بكافية.
تحتاج العدالة الإجتماعيّة إلى نظام ليبيرالي قائم على قيَم إجتماعيّة معيّنة، لبّها قيمة العدالة التي تنادي بها الحركة المسكونيّة منذ عقود حيث تعتبر أن لا سلام، لا أهليّ ولا بين الأمم، إلّا بتحقيق العدالة.
أمّا الإنتقال من الإستخدام غير الرسميّ إلى الإستخدام الرسميّ الذي يؤمّن حماية حقوق المستخدمين فإنّه يحتاج إلى سياسات إجتماعيّة إقتصاديّة حازمة وليس إلى غضّ نظر من قبل الدول كما يحصل اليوم. علمًا أنّ الأمر شبه مستحيل بوجود بطالة متصاعدة تهدّد مستقبل الإنسانيّة لدرجة أنّ العمل كقيمة إجتماعيّة أصبح موضوع مساءلة.
إنّنا إذ نثمّن جهود منظمة العمل الدوليّة في هذا السياق، نعتبر أنّ الأساليب والسّياسات المطروحة لن تتعدّى حيِّز الأمنيات، أو التوصيات في أفضل حال.
نحن كوننا مؤسّسة مسيحيّة المُعتقد، نرى أنّ العالم قد تمادى في جشعه وأنّ الثروات الطائلة المشبوهة في قسم كبير منها – على الرغم أنّها تحظى بتغطية "قانونيّة" – تحتاج إلى تدابير وسياسات جذريّة تهدف إلى إعادة توزيع المداخيل. لقد شكّل لبنان منذ الإستقلال، واليوم بشكل أكثر سوءاً، النموذج الفاضح للظلم والضيم الإقتصاديّين اللاحقين بالطبقات الأقل حظوة. نحن على يقين أن هناك الكثير من دول العالم هي في الأتون نفسه.
في سيرة السيّد المسيح وأقواله أمثلة كثيرة تشكّل حجر زاوية لثقافة تحضر الإنسان لكيّ يتقبّل أكثر فكرة توزيع منتجه مع أخيه المعوَز، لا بلّ تجعله يتخلّى عن جزء من ثمرة إنتاجه لمن هُم في حالة العوَز أو للخير العام.
على مالكي المؤسّسات الإنتاجيّة أو القيّمين عليها ألّا ينسوا أنّ ما جنوه من ثروات إنما غرفوه من مجتمعاتهم ومحيطهم وتاليًّا فإنّ عليهم "تسديد" ضريبة إجتماعيّة تكون الأساس للعدالة الإجتماعيّة.
ما أَصْعَبَ عَلَى الأَثْرِياءِ أَنْ يَدْخُلُوا مَلَكُوتَ ٱلله. فَإِنَّهُ لأَسْهَلُ أَنْ يَدْخُلَ جَمَلٌ في خِرْمِ الإِبْرَة، مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ مَلَكُوتَ ٱلله ( لوقا 18) قالها السيّد منذ ألفين، ونخشى ما نخشاء أن يبقى الأمر على حاله بعد ألفين، السمك الكبير يأكل السمك الصغير والإنسانيّة تبقى على بؤسها.