أطفالنا ليسوا بخير
إقرأوا قصّة ساجدة
تقرير وتصوير إيليا نصراللّه
قناع أبيض، علبة تلوين بستة ألوان: الأصفر والزهر والأزرق والبنفسجيّ والأسود والذهبيّ.
فتاة تبلغ من العمر اثني عشر عامًا تمسك ريشة التلوين وتختار الأزرق والأسود. تدهن القناع بهذين اللّونين ومن ثمّ تختار الأصفر لتلوّن به ما تبقّى من القناع.
قصّة القناع والتلوين ترويها ساجدة إسماعيل ديب بحزن تخفيه ابتسامة لم تفارق وجهها. إلتقينا الصغيرة بطلة الرواية في مستوصف السيّدة العذراء التابع لمجلس كنائس الشرق الأوسط، في منطقة السبتيّة في لبنان، حيث كانت تشارك في إحدى جلسات برنامج الدعم النفسيّ والإجتماعيّ الّذي تنظّمه دائرة دياكونيا في المجلس. من بين كل الأولاد كانت ساجدة وكأنها تلوّن بقلبها الصغير وتمنح مشاعرها وأوجاعها ألوانًا. وبحجّة تلك الألوان ومعانيها تكلّمنا عن هواياتها، فرحها وحزنها وكلّ ما يقلقها فكانت... قصّة ساجدة!.
أنا حزينة...
كما كلّ الأطفال في سنّها سألناها عن المهنة التي تريد أن تتخّذها في المستقبل فأجابت من دون تردّد "بدي صير مصفّفة شعر واهتم بتزيين الستّات... وبدي أدرس الكومبيوتر. لهيك لازم كمّل دراسة وروح عالمدرسة".
مع ذكر المدرسة إختفت الضحكة عن وجه ساجدة وقالت "أنا حزينة من قلبي، قلقانة... ومرات كثيرة ببكي لوحدي! بس بعدني متأملة إنو بكرا أكيد أحلى!". أيّ أمل تتحدّث عنه ساجدة وهي أصلًا غارقة في حزنها العميق؟
في الحقيقة ساجدة، هي الأخت الكبرى بين أخواتها الاربعة، وعن سبب حزنها، لا بل الأسباب الّتي جعلتها مربكة تروي "ما رحت السّنة الماضية على المدرسة لأن أهلي ما قدروا يدفعوا قسط المدرسة. بقيت بالبيت وساعدت أمّي".
تتابع ساجدة أنها كانت تشعر بحرقة كبيرة وألم شديد حين ترى أصحابها يذهبون كلّ يوم إلى المدرسة. ولدى عودتهم كانوا يخبرونها عمّا تعلّموه من دروس، أمّا هي فلم تخبرهم عن السبب الحقيقي لتغيّبها عن الصّفوف وكانت تقول لهم أنّها مريضة، وبعدها تبكي من دون أن يرانها أحد. "ليش رفقاتي بيروحوا عالمدرسة وأنا لا؟!" تسأل بحسرة وتؤكد أنّها لم تخبر أمّها عمّا كانت تشعر به لأنّها لا تريدها أن تحزن، ولا حتّى أبي".
ساجدة الصغيرة لم تستسلم، وعلى الرّغم من رفض أهلها عمِلت لمدة في مجال الخياطة. لماذا تعمل طفلة بهذه السِّن الصغيرة؟ تجيب " كان بدي طلّع مصاري وساعد أهلي ليأمنوا حاجاتنا ومتطلّباتنا اليوميّة خصوصًا الحليب لأختي الصّغيرة".
مزيد من الحزن
وجد والد ساجدة فرصة عمل وتمكنّت الفتاة الطموحة أخيرًا من متابعة رحلتها المدرسيّة. إلّا أنّ دوّامة الحزن ما زالت تحبطها، وتضيف أنّها كَرِهت المدرسة لأنّ المسؤولة هناك أصرّت على تسجيلها في الصفّ الرّابع بدلًا من السّادس مع باقي رفاقها. وبدأ الطلّاب يتنمرّون عليّها ويتوجّهون إليها بكلمات جارحة. وهذا ما زاد من حزنها فكانت أيضًا تبكي بمفردها من دون حتّى أن يعرف أهلها، بل على العكس كانت تحاول دائمًا أن تظهر لهم أنّها سعيدة.
ساجدة الّتي تبرع بمادتي الرّياضيّات والعلوم تواجه عائقًا آخر أمام رحلتها الدراسيّة بحسب ما وصفت. وذلك لأنّ طريق العودة من المدرسة في منطقة سدّ البوشريّة إلى منزلها في محلّة الفنار غير آمن، لا سيّما في اللّيل وهي تسلكه سيرًا على الأقدام مع أخيها الأصغر وتشدّد هنا " ما كنت خلي خيي يحسّ أني خايفة حتى ما يخاف هو كمان!".
لرحلة الحَجْرِ الصحّي جرّاء تفشّي فيروس كورونا أيضًا قصّة حرمان جديدة مع ساجدة التي لم تتمكن من فهم دروسها بشكل جيّد نتيجة ضعف التقنيّات الرقميّة وانقطاع الكهرباء والإنترت في الكثير من الأوقات في منزلها. هذا وقد أُصيبت ساجدة بفيروس كورونا، ما زاد الصغيرة يأسًا وتعبًا.
حقيقة
"أنا مخنوقة! بدّي خبّر حدا بكلّ شي عم حسّو، أو بدّي روح ع شط البحر وأصرخ هونيك بركي بيطلع كلّ هالحزن الّلي بقلبي!" بهذه الكلمات تابعت ساجدة قصّتها وأعربت عن إشتياقها الكبير لأخيها الصّغير كامل الّذي توفّي عن عمر شهر ونصف على باب إحدى المستشفيات في بيروت.
كامل كان أيضًا ضحيّة المستشفى الّذي رفض إستقباله وتقديم العلاج الذي يحتاجه، وذلك بسبب عدم تمكّن أهله من تسديد التكاليف الإستشفائيّة الباهظة.
بصيص أمل
قصّة ساجدة لم تنته. سمعنا كلماتها النّابعة من القلب وشاهدناها تشارك بكلّ حماسة في إحدى جلسات الدعم النفسيّ والإجتماعيّ الّتي نظّمتها دائرة الخدمة والإغاثة – دياكونيا، مكتب بيروت في مجلس كنائس الشرق الأوسط لمجموعة من الأولاد يوم الثّلاثاء 1 آذار/ مارس 2022، في مستوصف السيّدة العذراء، وذلك بهدف رفع معنويّاتهم ومساندتهم في مواجهة تحدّياتهم اليوميّة.
خلال الجلسات وزّعت المدرّبة المتخصّصة في العلاج النفسيّ أقنعة للمشاركين وطلبت منهم تلوينها بحسب مشاعرهم عمومًا وفق ما يلي:
الأزرق: في حال يشعرون بحزن شديد
الأسود: في حال يشعرون بحزن من دون التعبير عنه أمام الأهل
البنفسجيّ: في حال يخبرون الأهل عن كلّ ما يشعرون به من ألم
سائر الألوان: في حال يشعرون بفرح
في واقع الحال معظم الأطفال المشاركين إستخداموا الأزرق والأسود تعبيرًا عن الحزن العميق الّذي يمزّق قلوبهم. وهذا ما يدفعنا إلى دقّ ناقوس الخطر، فمستقبل هؤلاء بات مهدّدًا بخطر الإحباط واليأس منذ بداية الطريق.
ساجدة إختارت اللّونين الأزرق والأسود لتلوين قناعها، إلّا أنّها أضافت اللّون الأصفر تعبيرًا عن بصيص أمل. قالت "في شخص واحد بحياتي بيفرّحني وهي أمّي. وحدها ضحكة أمّي بتعطيني الأمل!".
قصّة ساجدة هي إحدى قصص أطفال يعانون في وحدتهم، يحزنون بصمت ويواجهون مشكلات الإنطواء وإنقطاع التواصل مع الأهل والشّعور حتى برغبة في الإنتحار... كلّ ذلك يخنقهم ويهدّد حياتهم ونموّهم الصحّي، النفسيّ والجسديّ.
هذه المعاناة ليست سوى نتيجة لتداعيات الظّروف المعيشيّة الصّعبة الّتي تمرّ بها البلاد والّتي سلبت منهم طفولتهم وحتّى حقّهم في التعليم. هذا عدا عن حقّهم باللّعب والمرح الّذي بات أيضًا منسيًّا. لكن هل من يسمع أنين هؤلاء الأطفال وسط كلّ الضجيج من حولنا؟ أم أصبحت الصّراعات والأزمات والنزاعات السياسيّة وحدها أولويّة؟ سؤال مشروع يحتاج لإجابات سريعة وإلا فالمستقبل بخطر!
دائرة التواصل والعلاقات العامة