الكنيسة في الدفاع عن الخليقة
د. ميشال أ. عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
ألقيت هذه الكلمة في افتتاح مؤتمر "احترام الخليقة تمجيد للخالق"
الذي نظمته رابطة كليات ومعاهد اللاهوت في الشرق الأوسط
سلام باسم الرب يسوع المنتصر على العدم والذي على اسمه نجتمع،
انه لمن دواعي سروري ان أتوجه اليكم، بواسطة حضرة القس العزيز رفعت فكري، الأمين العام المشارك في مجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي يشرفني ويقرأ كلمتي اليكم في افتتاح مؤتمركم "احترام الخليقة تمجيد للخالق" الذي تقيمونه في كلية العلوم الإنسانية واللاهوتية في المعادي بالقاهرة.
يهمني ان اشارككم بعض الهواجس والتطلعات المرتبطة بموضوع المؤتمر، كما بمن يقيم هذا المؤتمر، أي رابطة كليات ومعاهد اللاهوت في الشرق الأوسط (الاتيميه)، لما لهذين البعدين من أهمية استراتيجية بالنسبة الى العمل المسكوني ومستقبله في الشرق الأوسط.
الرابطة، التي تضم كليات ومعاهد اللاهوت التابعة للكنائس الأعضاء في المجلس، هي عمل نموذجي يُقتدى به في المجال المسكوني، وتُجسد فكر واهداف المجلس منذ نشأته، لذلك أسسها الاسلاف وساروا بها لعقود، ومن ثم أوقفوا نشاطها، لأسباب شتى، ومن ثم، اعيد احياء نشاطها منذ سنوات قليلة وهي مستمرة بوتيرة متصاعدة.
المهم في ظاهرة الاتيميه انها تجسد الوحدة المسيحية في أبهى حللها.
ان تجتمع الكنائس، وتقيم رابطة لكلياتها اللاهوتية، وان يجتمع المعنيون بالأمر ويتدارسوا مواضيع شتى، لها علاقة بتدريس اللاهوت، انما ينم ذلك عن إرادة واعية لدي القيمين على هذه المؤسسات بتعميق وتجذير العمل المشترك بين الكنائس على مستوى النبع، أي على مستوى التربية والخدمة المسيحيتين. ان يكون هناك برامج مشتركة او مقررات تدريسية مشتركة، وان يكون هناك تبادل طلاب بين المعاهد، وتبادل خبرات ومعلومات ومعارف وخبرات، فأن ذلك يدل على وعي لضرورة الوحدة وإرادة في السير باتجاهها.
الوحدة ليست ان تذوب المؤسسات في مؤسسة واحدة، بل في ان يكون الاتجاه واحد في التنوع، في وحدة الروح والرؤية والاهداف.
ان كل تبادل وتفاعل هما في المطلق تعميم للفائدة، فكيف إذا كان هذا التبادل وهذا التفاعل يجريان في إطار منظم، منهجي وهادف؟
الاتيميه هي الإطار الذي سوف يحتضن، ولسنوات كثيرة سوف تلي، كل اشكال التفاعل بين من اخذوا على عاتقهم بناء رعاة الغد، او الخدام المسكونيين، وكم نحتاج إليهم اليوم في هذا العالم السائر الى الضياع والذي دبت فيه الفوضى الايمانية والثقافية والقيمية.
اما ما يهمنا أيضا في "ظاهرة" الاتيميه، واضع كلمة ظاهرة بين مزدوجين عن قصد، فهو انها النموذج الذي نعمل على ترويجه في عملنا المسكوني في مجلس كنائس الشرق الأوسط.
منذ استلامي مهامي في المجلس، لم اتوقف لحظة عن الترويج لنموذج الاتيميه في كل مجالات نشاطات الكنائس، في مجال العمل مع الاسرة والمرأة والشبيبة والبيئة والاغاثة والتنمية والتدريب المهني والتأهيل الاقتصادي والتواصل والاعلام والنشر، وغيرها من المجالات التي تنشط فيها كنائسنا وذلك من اجل رفع مستوى التفاعل بين الأنشطة المتخصصة في كنائسنا، توخيا لرفع مستوى التآزر (synergy) بين مؤسساتها ذات الاختصاص الواحد.
لقد تقدمنا في بعض المجالات، رغم ان التقدم بطيء، ولم نستطع بعد العمل في بعض المجالات الأخرى، والأسباب مادية بحت، اذ ان نشاطات من هذا النوع تحتاج الى إمكانات مادية غير متوفرة، والاعتماد على التطوع لا يكفي لأنه يحتاج الى ذوي الاختصاص.
من هنا أهمية الاتيميه، كمنظومة جيدة البنيان والتماسك، والفضل يعود لقياداتها، لإيمانهم بما يقومون به أولا، ولمضاء عزيمتهم ثانيا، ولرؤيوتهم ثالثا. ان الذي يطّلع على البرامج التي وضعوها للرابطة يمكنه ان يتخيل مستقبلها والدور الذي سوف تضطلع به في مجالها.
اما موضوع المؤتمر، موضوع الساعة، فهو امر خطير ومصيري لم تعي البشرية بعد كفاية أهميته، الا على مستوى بعض النخب الأخلاقية الواعية، علما ان النسبة الكبرى من النخب الاقتصادية، الصناعية منها خصوصا، قد وعت خطورته، ولكنها تتجاهل الامر لانعكاس ذلك على ربحيتها.
نعم أيها الحضور الكرام، يُغيّبون البعد البيئي او يضعونه في آخر الأولويات، ويقدمون عليه الفعالية الإنتاجية والربحية، وجل ما اجترحوه هو "الإدارة الخضراء" (green management) في محاولة بيلاطوسية لتبرئة نفسهم من الجرائم البيئية التي يرتكبون. كم من اتفاقيات بيئية تمنعوا عن التوقيع عليها خلال العقود الثلاثة الماضية؟
يقابل ذلك تشريعات بيئية ناجعة، وانشاء هيئات بيئية محترمة، تقوم بعملها على أكمل وجه، ولكنه تبين ان هذا الامر غير كاف، وان الوعي والمسؤولية البيئيين ما زالا بعيدين عن بلوغ القاعدة المجتمعية والتحول الى ثقافة ونمط حياة.
من هنا أهمية تعاطي الكنيسة بحماية البيئة وضرورة ولوجها الحيّز البيئي بكل ما اوتيت من قوة، لأنها هي الوحيدة القادرة على ربط البيئة بباريها، الخليقة بخالقها.
الذي يبحر في شبكة الانترنت، يوقن كم ان الكنائس أصبحت متقدمة في العمل البيئي في الغرب، من اللاهوت البيئي (Eco theology)، الى الكنيسة الخضراء (green church)، الى تسميات أخرى، الكنيسة في خضم العمل البيئي ولا بد لمعاهدنا اللاهوتية من ان تكون رأس حربة في الدفاع عن الخليقة التي وهبنا إياها الخالق كإطار لحياتنا واستمرارنا وسعادتنا ونمونا...وكم نحن في نفس الوقت نمعن فيها فسادا واذية.
لقد وعينا، في مجلس كنائس الشرق الأوسط هذا الامر منذ فترة طويلة، وقد قام بعض من سبقونا الى المسؤولية باللازم، ولكن الامر أصبح يحتاج الى مقاربة منهجية مركزة. لذلك اوجدنا في المجلس "وحدة العدالة البيئية" – وقد تتحول قريبا الى دائرة، وأطلقنا مشروع "موسم الخليقة"، ونحن اليوم في السنة الثالثة من العمل به، وقد أصبحنا أعضاء في لجنته الدولية. كما يُحضّر المجلس لعقد مؤتمر بيئي دولي سوف يعقد في الرابع والخامس من أكتوبر في جامعتي الروح القدس-الكسليك والقديس يوسف، وعنوانه "توجهات مسكونية في التغيّر المناخي". إضافة الى ذلك، سوف يشترك المجلس في المؤتمر البيئي (Cop 28) كما سوف يكون شريكا في التأمل الكتابي حول البيئة في هذا المؤتمر.
في هذا السياق يأتي مؤتمركم الرائع، الذي يحمل هواجس المؤمن البيئية، فيضيف الى الموضوع معرفة، ويجعل التعامل بالأمر أكثر عمقا وأكثر اختصاصا، ويزود خدّام الرعايا والباحثين وطالبي الاختصاص بمعارف متقدمة ويضع الانسان الحديث امام مسؤولياته تجاه خالقه عبر تحميله مسؤولية احترام البيئة.
يظهر برنامج المؤتمر كم انه سوف يكون واعدا، ونحن نتوقع منه الكثير، كما نتوقع ان يرفد وسائل تواصل الكنائس والمجلس بالأفكار والتوجهات التي سوف تصدر عنه تعميما للفائدة.
ان مواضيع المحاضرات، كما اشخاص المحاضرين الكرام، تدل على اننا على عتبة توجه لاهوتي بيئي جديد في الشرق الأوسط، في الفكر والوعي والتعليم، وان الإضافات البيئية التي سوف تشملها برامج اللاهوت في المستقبل القريب، والتي سوف تنتقل الى الرعايا عبر خدامها، لا بد ان يكون لها الفعل في طريقة تعامل الانسان مع هبة الخالق.
وفقنا الرب جميعا في خدمة الانسان الذي خلقه على صورته ومثاله، عبر حماية بيئته والحفاظ عليها، كما عبر حمايته من كافة الكوارث التي ما فتئت تنتجها حضارة حديثة تمعن في تجاهل الخالق وتنكر جمال عطاياه.
بيروت في 23 يوليو 2023