قبل أسابيع على رسامته الأسقفيّة، سيادة المطران ميشال جلخ في حديث خاصّ
لا يمكن تحقيق المصالحة الّا من خلال الحوار المباشر بين الكنائس
علينا تعزيز الحضور المسيحي في المنطقة عبر الصمود والصلاة
من دون مجلس كنائس الشرق الأوسط نبقى كنائس متفرّقة
خاصّ مجلس كنائس الشرق الأوسط
"كُنتَ أَمينًا على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" (متّى 25: 23)!
الراهب الأنطوني اللّبناني، سيادة المطران ميشال جلخ، يرتفع في درج المسؤوليّات، وخدمة كنيسة المسيح تبقى شعاره إلى الأبد.
المطران جلخ، الأمين العام الفخري لمجلس كنائس الشرق الأوسط، والأمين العام للمجلس من العام 2013 الى العام 2018، رفعه قداسة البابا فرنسيس في آذار/ مارس 2024 إلى درجة الأسقفيّة بلقب "رئيس أساقفة نِصِّيبين شرفًا"، فمستحقّ هذه الخدمة. وبوضع يد غبطة البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة، سيُرسم مطرانًا يوم السبت 8 حزيران/ يونيو 2024، في الصرح البطريركي – بكركي، لبنان.
المطران ميشال جلخ اختار أن يكنز له كنوزًا في السموات على الرغم من إدراكه صعوبة هذا المسار الّا أنّ إيمانه الصّلب وعزيمته تؤكّدان على أنّ أبواب الجحيم لن تقوى على عمل الروح القدس. هو الماروني واللّبنانيّ الأوّل الّذي يستلم فيها في شهر شباط/ فبراير 2023، مركز أمين سرّ دائرة الكنائس الشرقيّة في الفاتيكان منذ تأسيسها في العام 1917 ولغاية الآن، حيث عُيّن مستشارًا لدائرة تعزيز وحدة المسيحيّين في الكرسي الرسولي.
نبذة عن حياة سيادة المطران جلخ
دخل المطران جلخ الرهبانيّة الأنطونيَّة في العام 1977 حيث أبرز نذوره فيها في العام 1985. درس الفلسفة واللّاهوت في جامعة القدِّيس توما الأكويني في روما، وسيّم كاهنًا على مذبح الربّ في العام 1991. عُيّن وكيلًا إداريًّا على أملاك الرهبنة الأنطونيَّة في روما منذ العام 1993 وحتّى العام 2005، ووكيلًا عامًّا لدى الكرسيّ الرسوليِّ في العام 1999. إلى ذلك، خدم في مجمع الكنائس الشرقيّة خلال ثماني سنوات حتّى العام 2008 حيث عاد إلى لبنان واستلم مهام الإدارة الماليّة في دير مار يوحنّا عجلتون ومدرستها خلال ثلاث سنوات. انتُخب أمينًا عامًّا لمجلس كنائس الشرق الأوسط في العام 2013 واستمرّ في هذا المنصب حتّى العام 2018. علمًا أنّه في العام 2017 عيَّنه مجلس الرهبنة رئيسًا للجامعة الأنطونيّة في لبنان، حيث عمل على تنمية الجامعة حتى العام 2023.
سيادة المطران جلخ هو أستاذ جامعي في مواد علوم الكنيسة والمسكونيّات، وعضو في حلقة القدّيس إيريناوس الأرثوذكسيّة - الكاثوليكيّة العالميّة. وهو حائز على الشهادة العليا في العزف على البيانو في العام 1996 وعلى شهادة الدكتوراه في العلوم الكنسيّة الشرقيّة من روما في العام 2008. له مؤلّفات عدّة في الإكليزيولوجيا والحوار المسكونيّ وقضيَّة مسيحيّي المشرق.
مسؤوليّات جديدة وتحديّات كبيرة
في حديث خاصّ أجرته دائرة التواصل والعلاقات العامة في مجلس كنائس الشرق الأوسط مع سيادة المطران ميشال جلخ، يجيب سيادته على أسئلة عديدة حول مسؤوليّاته الجديدة حيث تمّ البحث معه في تحدّيات العمل المسكوني ومسألة الحضور المسيحي في الشرق الأوسط، إضافة إلى قضايا أُخرى ذات صلة.
"الخدمة والمسكونيّة" تعهّد يجسّده المطران جلخ بالعلم والعمل في حياته وعمله ومسيرته. بعد أن رفعه قداسة البابا فرنسيس إلى درجة الأسقفيّة، يحمل رئيس أساقفة نِصِّيبين شرفًا هواجسًا جديدة حيث يسعى وبكثير من الرجاء إلى ترسيخ كلمة السيّد المسيح وتعزيز أواصر المحبّة والأخوّة بين المؤمنين في مختلف أنحاء الأرض. ومع تضاعف المسؤوليّات يشير المطران جلخ إلى أنّ همّ الخدمة في عمله أصبح أكبر وأعمق.
ويضيف أنّ "المسكونيّة همّ آخر نحمله دائمًا. في كلّ رسالة أوقّعها، كلّ عمل أقوم به، كلّ عظة أوجّهها، كلّ مداخلة أكاديميّة ألقيها وفي كلّ مرّة أمثّل فيها دائرة الكنائس الشرقية كمسؤول ثان، تبقى المسكونيّة حاضرة دائمًا حيث آخذ بعين الإعتبار البُعد المسكوني في كلّ كلمة أكتبها وكلّ رسالة أو كتاب أوقّعه أو كلّ عمل أقوم به".
دائرة الكنائس الشرقيّة في الفاتيكان
أمين سرّ دائرة الكنائس الشرقيّة في الفاتيكان يدرك تمامًا أنّ الكنيسة في الشرق الأوسط والعالم تواجه صعوبات جمّة وسط عالم يتخبّط بالصراعات والحروب وخطاب الكراهية. لكن وعلى ضوء كلّ هذه التحدّيات، ما هي مهام دائرة الكنائس الشرقيّة في الفاتيكان؟ وما هو الدور الّذي يقوم به المطران جلخ؟
يشرح الراهب اللّبناني أنّ دائرة الكنائس الشرقيّة في الفاتيكان تُعنى بملفّات الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة حيث تتألّف من 23 كنيسة كاثوليكيّة تمتدّ جغرافيًّا من شمال أفريقيا وجنوبها وإريتريا وأثيوبيا وكلّ كنائس الشرق الأوسط الكاثوليكيّة لأوروبا الوسطى وشرقها أي أوكرانيا ورومانيا ومولدوفا وسيربيا... حتّى كنائس الملابار والملانكار السريانية في جنوب الهند. تكمن مهام الدائرة في متابعة المسائل الكنسيّة والماليّة والإداريّة المتعلّقة بالصعوبات الموجودة، إضافةً إلى إنتخابات الأساقفة، المساعدات الماليّة، العلاقات بين هذه الكنائس وقداسة البابا فرنسيس، وكذلك الكتب الطقسيّة واللّيتورجيّة...
تضمّ الدائرة كسائر الدوائر في الفاتيكان ثلاثة مسؤولين وهم الكاردينال أو الرئيس، امين السرّ والسكريتير المساعد، فيشير المطران جلخ إلى أنّه "الشخص الثاني بعد الكاردينال حيث ننسّق ونعالج سويًّا ومع سكرتير مساعد كلّ المسائل المتعلّقة بالدائرة، لنوزّع بعدها المهام على المعنيّين وهم 27 شخصًا في الدائرة من بينهم حوالي 15 كاهنًا، وحوالي 12 علمانيًّا. أمّا المهام الّتي أقوم بها فهي الاطّلاع على كلّ القضايا الخاصّة بالكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة واتّخاذ القرارات والحلول المناسبة لها".
دائرة تعزيز وحدة المسيحيّين في الفاتيكان
لا يقتصر عمل سيادة المطران جلخ في خدمة الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة فقط وإنّما في السعي أيضًا إلى تعزيز الروح المسكونيّة في سبيل تحقيق وصيّة يسوع المسيح "ليكون الجميع واحدًا كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك" (يوحنّا 17: 21). في هذا الإطار وكمستشار لدائرة تعزيز وحدة المسيحيّين في الفاتيكان، يتابع سيادته دراسة بعض القضايا الّتي تعالجها هذه الدائرة.
من هنا، يوضح المطران جلخ أنّ دائرة تعزيز وحدة المسيحيّين ولدت في المجمع الفاتيكاني الثاني كسكريتاريا لتشهد بعدها تطوّرًا جديدًا وتصبح دائرة قائمة بنفسها مع رئيس ومعاونين وبعلاقة مباشرة مع الحبر الأعظم. من خلال هذه الدائرة، انطلق الحوار بين كنيسة الفاتيكان روما والكنائس الأخرى، حيث بدأ بشكل تمهيدي في العام 1964 خصوصًا مع لقاء البابا بولس السادس وبطريرك القسطنطينيّة في الأراضي المقدّسة. كما شهدت الدائرة حوارات محبّة متعدّدة من العام 1965 حتّى العام 1980، لتُنشأ بعدها لجان حوار مختلفة بين الكنيسة الكاثوليكيّة وباقي العائلات المسيحيّة غير الكاثوليكيّة، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيّات الكنائس الأرثوذكسيّة المحليّة والإثنيّة وغيرها.
يتابع المطران جلخ "بحكم مسؤوليّتي وخدمتي في دائرة الكنائس الشرقيّة في الفاتيكان عيّنني قداسة البابا فرنسيس كمستشار في دائرة تعزيز وحدة المسيحيّين للاطّلاع على المسائل المختصّة بالكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة والعمل على معالجتها. أدرس الملفّات الّتي تصلني وأقدّم آرائي اللّازمة حيث يتمّ دعوتي أيضًا للمشاركة في الجمعيّة العموميّة الّتي تعقدها الدائرة".
الحوار والعمل المسكوني
في ظلّ كلّ المساعي الجارية لبناء الجسور بين الكنائس، ما هي أهميّة برامج الحوار الّتي تُقام في ما بينها؟ وهل من نتائج إيجابيّة صادرة عنها؟ يجيب المطران جلخ أنّه "لا يمكن تحقيق المصالحة الّا من خلال الحوار المباشر الّذي يسهم في تقريب المسافات بين الكنائس، ومن دون ذلك لا يمكننا أن نصل إلى وحدة بين المسيحيّين. تساعد برامج الحوار في تعزيز التواصل والتقارب بين الكنائس، وهذا ما يحدّ من الأحكام المسبقة.
عندما نتعرّف على الآخر وفكره وحياته وطريقة عيشه ونظرته إلى الكنيسة، يمكننا الإعتراف بكلّ الأمور الإيجابيّة لديه وفي إيمانه. المصالحة تتطلّب الكثير من الوقت والسنين والصلاة، وهي لا تتحقّق فقط من خلال الحوارات وإنّما عبر عمل الروح القدس في قلب الكنيسة. دورنا يكمن في الإصغاء إلى نداءات الروح القدس".
ويضيف "لدينا أمل كبير في موضوع وحدة المسيحيّين، لكن علينا أن نكون واقعيّين فهذه القضيّة تبقى همًّا وسنبقى حاملين همّ الوحدة الّتي أوصانا بها يسوع المسيح من خلال صلاته الكهنوتيّة في إنجيل يوحنّا. تطلّعاتي أن نبقى حاملين قضيّة وحدة المسيحيّين في حياتنا وصلاتنا وروحانيّتنا".
وحدة المسيحيّين في الشرق الأوسط
لكن ما هو واقع قضيّة وحدة المسيحيّين ومسار العمل المسكوني في الشرق الأوسط؟ يشير سيادته إلى أنّ "الحوار اللّاهوتي يبدو وكأنّه في آخر سلّم الأولويّات. إنّما ما يميّز العمل المسكوني في الشرق الأوسط هو المحبّة من خلال العمل معًا والصلاة سويّة الّتي تتجسّد كثيرًا في أسبوع صلاة من أجل وحدة المسيحيّين. وما يميّز أيضًا الكنائس في الشرق الأوسط هو قبول الآخر والإختلاط في ما بينها وبين المؤمنين إن كان من خلال العيش المشترك أو المدارس أو الجامعات أو الزواج المختلط. لذا من الضروري العمل على الحدّ من تسخيف الأمور والسخرية في ما بيننا والتوعية حول القضيّة المسكونيّة، والاتّكال على الله فهو مؤسّس الكنيسة والمسؤول الأوّل والأخير عنها".
من هنا، ونتيجة للظّروف المعيشيّة العصيبة الّتي يمرّ بها أبناء الشرق الأوسط جرّاء مختلف الأزمات الّتي تثقل كاهلهم، بات الحضور المسيحي في المنطقة مهدّدًا بالخطر. في هذا الإطار، يقول المطران جلخ أنّ "كنائس الشرق الأوسط هي من أكثر الكنائس في العالم الّتي تتألّم وتتعذّب. يمكننا تعزيز الحضور المسيحي في المنطقة من خلال الصمود والإصرار على البقاء والإيمان بالقيامة بعد الآلام والوعي لدورنا ورسالتنا في هذه الأرض المقدسة. علينا الإستمرار في الصلاة والتوعية وترسيخ إيماننا بربّنا لأنّ هذه الأرض مقدّسة فإن متنا أو استشهدتا فيها نكون قد استشهدنا بإسم الكنيسة الّتي تبقى حيّة".
في الختام، ولمناسبة السنة الخمسين لتأسيس مجلس كنائس الشرق الأوسط، يتمنّى سيادة المطران ميشال جلخ للمجلس سنين عديدة ومديدة بالنجاح ويقول "مجلس كنائس الشرق الأوسط عزيز عليّ جدًّا ويعنيني كثيرًا. أمضيت فيه 5 أعوام حيث عملت من قلبي وأحببته جدًّا. علينا أن نحافظ عليه بكلّ ما أوتينا من قوّة لأنّ من دونه نبقى كنائس متفرّقة. في وقت من الأوقات، واجه المجلس صعوبات كثيرة كما سائر المؤسّسات فعلينا أن نواصل جهودنا كي يستمرّ بتأدية دوره المهمّ".