التكنولوجيا، هذا الصديق اللدود
ألقى الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط البروفسور ميشال عبس هذه الكلمة في الندوة الّتي نظّمها مجلس كنائس الشرق الأوسط عن بُعد بعنوان "الكرامة الإنسانيّة في عصر الذكاء الإصطناعي"، وذلك يوم الخميس 27 آذار/ مارس 2025.
البروفسور ميشال عبس
الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط
منذ بداية الثورة الصناعية وبروز عصر الآلة، دخلت البشرية حقبة جديدة في تاريخها تميز بتحرير القدرة على الإنتاج من محدودية العمل الحرفي الى رحابة الإنتاج الغزير الناتج، عن قدرة الآلة على تزويد المنتجين بكمية متصاعدة من المنتجات، وتاليا، سد الكم الأكبر من الحاجات ورفع مستوى الربحية لدى المنتجين، مما يؤدي الى تكدس رؤوس الأموال ونشوء مؤسسات الإنتاج العملاقة.
هذا على صعيد الإنتاج، اكان زراعيا ام صناعيا، وحتى تجاريا، حيث ساهمت التكنولوجيا بتحسين الترويج والتوزيع، استنادا الى منتجات ذات كلفة متدنية، وتاليا، ذات سعر تنافسي، في سوق تزداد حدة السباق فيها الى حد الجنون.
اما على الصعد الأخرى، اكان بالنسبة الى رفاهية الانسان، او في السكن، او المأكل، او النقل، او الترفيه، فقد كان للتكنولوجيا دور أساسي في التقدم في هذه المجالات.
اما المجال الأكثر حساسية فهو المجال الطبي، حيث تقدم التشخيص والعلاج الطبيين بشكل فاق التصور، مما اطال معدلات الاعمار، وجعل الطبابة أكثر سرعة وفاعلية واقل ايلاما، مما كانت عليه سابقاً.
وإذا أردنا الغوص أكثر في مفاعيل التقدم التكنولوجي، فلا بد لنا ان نجد مجالات لا عد لها ولا حصر، حيث أحدثت التكنولوجيا تغيرا حميدا تقبله الناس، لا بل تطالب به.
اما المجال الذي شهد أكبر تقدم تقني، لدرجة انه قد غير وجه الإنسانية، وأحدث تغييرات ثقافية واجتماعية ونفسية واقتصادية، فهو مجال المعلوماتية وكل ما رافقها من مجالات مرتبطة بها.
لقد غير الكمبيوتر، هذه الآلة الصغيرة – التي بدأت كبيرة جداً – ولاحقا الهاتف الخلوي، الأصغر والذي يفوق الحاسوب فعالية أحيانا، وجه الإنسانية بشكل جذري لا رجوع عنه.
لقد فتحت المعلوماتية وكل مشتقاتها سقف الابتكار والابداع الانسانيين، بحيث لم نعد نرى لا سقف ولا نهاية لهذا المسار الذي أصبح مفتوحا على شتى الاحتمالات لدرجة انه، ما كان يصنف في الماضي في باب الخيال العلمي، أصبح اليوم حقيقة ملموسة يجانبنا في حياتنا اليومية.
بعد العدد الكبير من الاكتشافات الناتجة عن صعود عالم المعلوماتية، واخطرها الخريطة الجينية للإنسان، ومفاعيلها الخطيرة، يأتي الذكاء الاصطناعي ليطرح التحدي الأكبر حتى اليوم على البشرية.
نستمع في يومياتنا الى آراء متناقضة حول الذكاء الاصطناعي واستخداماته في شتى المجالات، والأرجح ان قلة فقط من الذين يعبّرون عن آرائهم قد تمحصوا فعلا في ماهية هذه المنهجية الجديدة ونتائجها على حياة الانسان. أكثر ما نسمعه هو بعض الآراء الماضوية حول الذكاء الاصطناعي ممزوجا بكثير من الريبة من الابتكارات وأساليب العمل الجديدة، يضاف عليها بعض الحنين الى فولكلور مرحلة قد افلت.
ان التقدم الذي عاشته البشرية حتى اليوم قد رفع من مستوى الحياة، وخفف آلام الكثير من الناس ورفع الإنتاجية وحسنها، تماما كما فعلت الآلة ابان الثورة الصناعية، وألغى الكثير من الاعمال التي أصبحت تصنف في باب الروتيني وغير الإبداعي او التكراري، مما رسم حقبة جديدة متقدمة للإنسانية.
ان الغاء الوظائف التي تتطلب كفاءات غير عالية قد أصبح نسقا مقبولا، لا بل مطلوبا، فألغيت العديد من الوظائف والمهن، والكثير غيرها مرشح للإلغاء، وأصبحت البشرية تنظر الى المستقبل بعين نخبوية، لا تخلو من نزعة داروينية، مفادها ان الغلبة للأقوى.
ما هو انعكاس هذا الامر على المجتمع، وتاليا، على الكرامة الإنسانية؟
لا شك ان التقدم التقني امر مطلوب ومستحب، ولا شك ان له حسنات لا تعد ولا تحصى على كل الصعد، ولكن لا بد لنا من ان نعترف ان لهذا المسار الجديد في حياة الناس سيئات ليست بقليلة، لا في مداها ولا في مفاعيلها.
لا بد لنا أولا ان نقر ان النخبوية التي ينتجها الذكاء الاصطناعي تفرز الشعوب بين ملتحِق بهذا الركب الحضاري وغير ملتحِق به، كما تفرز المجتمع الواحد الى مندمج في هذا المسار الجديد ام غير مندمج به، فتخلق شرخا وهامشية على المستويين العالمي والمحلي، وتفرز الشعوب كما تفرز أبناء المجتمع الواحد. هذا الامر يعتبر التحدي الأكبر لمساوات الفرص الذي تتغنى به المجتمعات الحديثة التي تناصر العدالة وحقوق الانسان.
إضافة الى ذلك، وكما هي الحال في أي تقدم تقني، سوف يكون الذكاء الاصطناعي سببا لإلغاء اعداد كبيرة من الوظائف، يمكن احتسابها بمئات الألاف على الصعيد العالمي، فيكون تاليا، مسببا أساسيا للبطالة ولرمي مئات الألوف من الناس في آتون الهامشية المهنية والاجتماعية التي تقود حكما الى البؤس.
اذا كنا نجد في الذكاء الاصطناعي وسيلة لتحسين الكرامة الإنسانية على بعض الصعد، فإن مفاعيله السلبية ليست بالقليلة، وسوف تتكشف لنا تباعاً مع اجتياح هذا المنطق الجديد لمجالات الحياة.
هل هذا يعني ان نعتمد ام نرفض الذكاء الاصطناعي؟
الوحيد الذي يستطيع الإجابة على هذا السؤال هو عقل الانسان وحكمته، اذ هم من يحددون كيفية ومدى استعمال التكنولوجيا والاعتماد عليها، ويضعون ضوابط الأمور لكيلا يصبح العقل والارادة البشريين في حال تبعية للتكنولوجيا، التي اما ان تكون صديقة صدوقة في خدمة الانسان او تضحي صديقة لدودة له.